فصل: تفسير الآية رقم (71)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏71‏]‏

‏{‏وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآَيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ ‏(‏71‏)‏‏}‏

‏{‏واتل عَلَيْهِمْ‏}‏ أي على المشركين من أهل مكة وغيرهم لتحقيق ما سبق من عدم إفلاح المفترين وكون ما يتمتعون به على جناح الفوات وأنهم مشرفون على الشقاء المؤبد والعذاب الشديد ‏{‏نَبَأَ نُوحٍ‏}‏ أي خبره الذي له شأن وخطر مع قومه الذين هم أضراب قومك في الكفر والعناد ليتدبروا ما فيه مما فيه مزدجر فلعلهم ينزجرون عما هم عليه أو تنكسر شدة شكيمتهم ولعل بعض من يسمع ذلك منك ممن أنكر صحة نبوتك أن يعترف بصحتها فيؤمن بك بأن يكون قد ثبت عنده ما يوافق ما تضمنه المتلو من غير مخالفة له أصلاً فيستحضر أنك لم تسمع ذلك من أحد ولم تستفده من كتاب فلا طريق لعلمك به إلا من جهة الوحي وهو مدار النبوة‏.‏

وفي ذلك من تقرير ما سبق من كون الكل لله سبحانه، واختصاص العزة به تعالى، وانتفاء الخوف على أوليائه وحزنهم، وتشجيع النبي صلى الله عليه وسلم وحمله على عدم المبالاة بهم وبأقوالهم وأفعالهم ما لا يخفى، والاقتصار على بعض ذلك قصور؛ وقد تقدم الكلام في نوح عليه السلام ‏{‏إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ‏}‏ اللام للتبليغ أو التعليل و‏{‏إِذْ‏}‏ بدل من ‏{‏نَبَأَ‏}‏ بدل اشتمال أو معمولة له لا لاتل لفساد المعنى، وجوز أبو البقاء تعلقه بمحذوف وقع حالاً من ‏{‏نَبَأَ‏}‏ وأياً ما كان فالمراد بعض نبئه عليه الصلاة والسلام لا كل ما جرى بينه وبين قومه وكانوا على ما قال الأجهوري من بني قابيل ‏{‏لِقَوْمِهِ ياقوم إِن كَانَ كَبُرَ‏}‏ أي عظم وشق ‏{‏عَلَيْكُمْ مَّقَامِى‏}‏ أي نفسي على أنه في الأصل اسم مكان وأريد منه النفس بطريق الكناية الإيمائية كما يقال المجلس السامي، ويجوز أن يكون مصدراً ميمياً بمعنى الإقامة يقال‏:‏ قمت بالمكان وأقمت بمعنى أي إقامتي بين ظهرانيكم مدة مديدة، وكونها ما ذكر الله تعالى ألف سنة إلا خمسين عاماً يقتضي أن يكون القول في آخر عمره ومنتهى أمره ويحتاج ذلك إلى نقل، أو المراد قيامه بدعوتهم وقريب منه قيامه لتذكيرهم ووعظهم لأن الواعظ كان يقوم بين من يعظهم لأنه أظهر وأعون على الاستماع كما يحكى عن عيسى عليه السلام أنه كان يعظ الحواريين قائماً وهم قعود، وكثيراً ما كان نبينا صلى الله عليه وسلم يقوم على المنبر فيعظ الجماعة وهم قعود فيجعل القيام كناية أو مجازاً عن ذلك أو هو عبارة عن ثبات ذلك وتقرره ‏{‏وَتَذْكِيرِى‏}‏ إياكم ‏{‏لَّهُ مَقَالِيدُ‏}‏ الدالة على وحدانيته المبطلة لما أنتم عليه من الشرك ‏{‏فَعَلَى الله تَوَكَّلْتُ‏}‏ لا على غيره، والجملة جواب الشرط وهو عبارة عن عدم مبالاته والتفاته إلى استثقالهم، ويجوز أن تكون قائمة مقامه، وقيل‏:‏ الجواب محذوف وهذا عطف عليه أي فافعلوا ما شئتم، وقيل‏:‏ المراد الاستمرار على تخصيص التوكل به تعالى، ويجوز أن يكون المراد إحداث مرتبة مخصوصة من مراتب التوكل وإلا فهو عليه السلام متوكل عليه سبحانه لا على غيره دائماً، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ‏}‏ عطف على الجواب المذكور عند الجمهور والفاء لترتيب الأمر بالإجماع على التوكل لا لترتيب نفس الإجماع عليه، وقيل‏:‏ إنه الجواب وما سبق اعتراض وهو يكون بالفاء

‏.‏ فاعلم فعلم المرء ينفعه *** ولعله أقل غائلة مما تقدم لما سمعته مع ما فيه من ارتكاب عطف الإنشاء على الخبر وفيه كلام‏.‏ و‏{‏أَجْمَعُواْ‏}‏ بقطع الهمزة وهو كما قال أبو البقاء من أجمعت على الأمر إذا عزمت عليه إلا أنه حذف حرف الجر فوصل الفعل، وقيل‏:‏ إن أجمع متعد بنفسه واستشهد له بقول الحرث بن حلزة‏:‏ أجمعوا أمرهم بليل فلما *** أصبحوا أصبحت لهم ضوضاء

ونص السدوسي على أن عدم الإتيان بعلى كأجمعت الأمر أفصح من الإتيان بها كأجمعت على الأمر، وقال أبو الهيثم‏:‏ معنى أجمع أمره جعله مجموعاً بعد ما كان متفرقاً وتفرقته أن يقول مرة أفعل كذا ومرة أفعل كذا فإذا عزم فقد جمع ما تفرق من عزمه ثم صار بمعنى العزم حتى وصل بعلى وأصله التعدية بنفسه، ولا فرق بين أجمع وجمع عند بعض، وفرق آخرون بينهما بأن الأول يستعمل في المعاني والثاني في الأعيان فيقال‏:‏ أجمعت أمري وجمعت الجيش ولعله أكثري لا دائمي، والمراد بالأمر هنا نحو المكر والكيد ‏{‏وَشُرَكَاءكُمْ‏}‏ أي التي زعمتم أنها شركاء لله سبحانه وتعالى، وهو نصب على أنه مفعول معه من الفاعل لأن الشركاء عازمون لا معزوم عليهم، ويؤيد ذلك قراءة الحسن‏.‏ وابن أبي إسحاق‏.‏ وأبي عبد الرحمن السلمي‏.‏ وعيسى الثقفي بالرفع فإن الظاهر أنه حينئذٍ معطوف على الضمير المرفوع المتصل ووجود الفاصل قائم مقام التأكيد بالضمير المنفصل‏.‏

وقيل‏:‏ إنه مبتدأ محذوف الخبر أي وشركاؤكم يجمعون ونحوه‏.‏ وقيل‏:‏ إن النصب بالعطف على ‏{‏أَمَرَكُمُ‏}‏ بحذف المضاف أي وأمر شركائكم بناءً على أن أجمع تتعلق بالمعاني والكلام خارج مخرج التهكم بناءً على أن المراد بالشركاء الأصنام، وقيل‏:‏ إنه على ظاهره والمراد بهم من على دينهم‏.‏ وجوز أن لا يكون هناك حذف والكلام من الإسناد إلى المفعول المجازي على حد ما قيل في ‏{‏واسئل القرية‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 82‏]‏، وقيل‏:‏ إن ذاك على المفعولية به لمقدر كما قيل في قوله

علفتها تبناً وماءً بارداً *** أي وادعوا شركاءكم كما قرأ به أبي رضي الله تعالى عنه، وقرأ نافع ‏{‏فَأَجْمِعُواْ‏}‏ بوصل الهمزة وفتح الميم من جمع، وعطف الشركاء على الأمر في هذه القراءة ظاهر بناءً على أنه يقال‏:‏ جمعت شركائي كما يقال‏:‏ جمعت أمري، وزعم بعضهم أن المعنى ذوي أمركم وهو كما ترى، والمعنى أمرهم بالعزم والإجماع على قصده والسعي في إهلاكه على أي وجه يمكنهم من المكر ونحوه ثقة بالله تعالى وقلة مبالاة بهم، وليس المراد حقيقة الأمر ‏{‏ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ‏}‏ ذلك ‏{‏عَلَيْكُمْ غُمَّةً‏}‏ أي مستوراً من غمه إذا ستره، ومنه حديث وائل ابن حجر «لا غمة في فرائض الله تعالى» أي لا تستر ولا تخفى وإنما تظهر وتعلن، والجار والمجرور متعلق بغمة، والمراد نهيهم عن تعاطي ما يجعل ذلك غمة عليهم فإن الأمر لا ينهى ويستلزم ذلك الأمر بالإظهار، فالمعنى أظهروا ذلك وجاهروني به فإن الستر إنما يصار إليه لسد باب تدارك الخلاص بالهرب أو نحوه فحيث استحال ذلك في حقي لم يكن للستر وجه، وكلمة ‏{‏ثُمَّ‏}‏ للتراخي في الرتبة، وإظهار الأمر في مقام الإضمار لزيادة التقرير، وقيل‏:‏ أظهر لأن المراد به ما يعتريهم من جهته عليه السلام من الحال الشديدة عليهم المكروهة لديهم لا الأمر الأول، والمراد بالغمة الغم كالكربة والكرب، والجار والمجرور متعلق بمقدر وقع حالاً منها، وثم للتراخي في الزمان، والمعنى ثم لا يكن حالكم غماً كائناً عليكم وتخلصوا بهلاكي من ثقل مقامي وتذكيري بآيات الله تعالى، واعترض عليه بأنه لا يساعده قوله تعالى شأنه‏:‏ ‏{‏ثُمَّ اقضوا إِلَىَّ وَلاَ تُنظِرُونَ‏}‏ أي أدوا إلى ذلك الأمر الذي تريدون ولا تمهلوني على أن القضاء من قضى دينه إذا أداه، ومفعوله محذوف كما أشرنا إليه وفيه استعارة مكنية والقضاء تخييل وقد يفسر القضاء بالحكم أي احكموا بما تؤدوه إلى ففيه تضمين واستعارة مكنية أيضاً لأن توسيط ما يحصل بعد الإهلاك بين الأمر بالعزم على مباديه وبين الأمر بقضائه من قبيل الفصل بين الشجر ولحائه، والوجه الأول سالم عن ذلك وهو ظاهر، وقييل‏:‏ المراد بالغمة المعنى الأول وبالأمر ما تقدم وبالنهي الأمر بالمشاورة أي أجمعوا أمركم ثم تشاوروا فيه وفيه بعد لعدم ظهور كلا الترتيبين الدالة عليهما ثم سواء اعتبرت قراءة الجماعة أو قراءة نافع في ‏{‏أَجْمَعُواْ‏}‏ وقرىء ‏{‏أفضوا‏}‏ إلى بالفاء أي انتهوا إلى بشركم أو ابرزوا إلى من أفضى إذا خرج إلى الفضاء كأبرز إذا خرج إلى البراز وهو المكان الواسع‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏72‏]‏

‏{‏فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ‏(‏72‏)‏‏}‏

‏{‏واحذروا فَإِن تَوَلَّيْتُمْ‏}‏ أي بقيتم على إعراضكم عن تذكيري أو أحدثتم إعراضاً مخصوصاً عن ذلك بعد وقوفكم على أمري ومشاهدتكم مني ما يدل على صحة قولي ‏{‏فَمَا سَأَلْتُكُمْ‏}‏ بمقابلة تذكيري ووعظي ‏{‏مِنْ أَجْرٍ‏}‏ تؤدونه إلي حتى يؤدي ذلك إليكم إلى توليكم إما لاتهامكم إياي بالطمع أو لثقل دفع المسؤول عليكم أو حتى يضرني توليكم المؤدي إلى الحرمان فالأول لإظهار بطلان التولي ببيان عدم ما يصححه والثاني لإظهار عدم مبالاته عليه السلام بوجوده وعدمه، وعلى التقديرين فالفاء الأولى لترتب هذا الشرط على الجزاء قبله والفاء الثانية لسببية الشرط للإعلام بمضمون الجزاء بعده كما ذكره بعض المحققين، أي إن توليتم فاعلموا أن ليس في مصحح له أولاً تأثر منه على حد ما قيل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ على كُلّ شَىْء قَدُيرٌ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 17‏]‏‏.‏

وذهب بعضهم إلى أن جواب الشرط محذوف أقيم ما ذكر وهو علته مقامه أي فلا باعث لكم على التولي ولا موجب له أو فلا ضير علي بذلك، وكلام البعض مشعر بأنه مع اعتبار الحذف والإقامة المذكورين يجىء حديث اعتبار سببية الشرط للإعلام وهو الذي يميل إليه الذوق و‏{‏مِنْ‏}‏ زائدة للتأكيد أي فما سألتكم أجراً، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى الله‏}‏ تأكيد لما قبله على المعنى الأول وتعليل لاستغنائه عليه السلام على المعنى الثاني أي ما ثوابي على العظة والتذكير إلا عليه تعالى يثبني بذلك آمنتم أو توليتم، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المسلمين‏}‏ تذييل على ما قيل لمضمون ما قبله مقرر له، والمعنى وأمرت بأن أكون منتظماً في عداد المسلمين الذين لا يأخذون على تعليم الدين شيئاً ولا يطلبون به دنيا، وفيه حمل الإسلام على ما يسارق الإيمان واعتبار التقييد، وعدل عنه بعضهم لما فيه من نوع تكلف فحمل الإسلام على الاستسلام والانقياد ولم يقيد، أي وأمرت بأن أكون من جملة المنقادين لحكمه تعالى لا أخالف أمره ولا أرجو غيره، وفيه على هذا المعنى أيضاً من تأكيد ما تقدم وتقرير مضمونه ما لا يخفى، ولا يظهر أمر التأكيد على تقدير أن يكون المعنى من المستسلمين لكل ما يصيب من البلاء في طاعة الله تعالى ظهوره على التقديرين السابقين، وبالجملة أنه عليه السلام لم يقصر في إرشادهم بهذا الكلام وبلغ الغاية القصوى فيه‏.‏

وذكر بعضهم وجه نظمه على هذا الأسلوب على بعض الأوجه المحتملة فقال‏:‏ إنه عليه الصلاة والسلام قال في أول الأمر‏:‏ ‏{‏فَعَلَى الله تَوَكَّلْتُ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 71‏]‏ فبين وثوقه بربه سبحانه أي إني وثقت به فلا تظنوا بي أن تهديدكم إياي بالقتل والإيذاء يمنعني من الدعاء إلى الله تعالى، ثم أورد عليهم ما يدل على صحة دعواه فقال‏:‏

‏{‏فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 71‏]‏ كأنه يقول‏:‏ أجمعوا كل ما تقدرون عليه من الأشياء التي توجب حصول مطلوبكم ثم لم يقتصر على ذلك بل أمرهم أن يضيفوا إلى أنفسهم شركاءهم الذين كانوا يزعمون أن حالهم يقوى بمكانهم وبالتقرب إليهم ثم لم يقتصر على هذين بل ضم إليهما ثالثاً وهو قوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ لاَ يَكُونُواْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 71‏]‏ فأراد أن يسعوا في أمره غاية السعي ويبالغوا فيه غاية المبالغة حتى يطيب عيشهم، ثم لم يقتصر على ذلك حتى ضم إليه رابعاً فقال‏:‏ ‏{‏ثُمَّ اقضوا إِلَىَّ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 71‏]‏ آمراً لهم بأداء ذلك كله إليه، ثم ضم إلى ذلك خامساً ‏{‏وَلاَ تُنظِرُونَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 71‏]‏ فنهاهم عن الإمهال وفي ذلك من الدلالة على أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الغاية في التوكل على الله سبحانه وأنه كان قاطعاً بأن كيدهم لا يضره ولا يصل إليه وأن مكرهم لا ينفذ فيه ما هو أظهر من الشمس وأبين من أمس، ثم إنه عليه السلام أراد أن يجعل الحجة لازمة عليهم ويبرىء ساحته فنفي سؤاله إياهم شيئاً من الأجر وأكد ذلك بأن أجره على الله سبحانه لا على غيره مشيراً إلى مزيد كرمه جل جلاله وأنه يثيبه على فعله سأله أو لم يسأله ولذا لم يقل إن سؤالي الأجر إلا من الله تعالى، ثم لم يكتف بذلك حتى ضم إليه أنه مأمور بما يندرج فيه عدم سؤالهم والالتفات إلى ما عندهم وأن يتصف به على أتم وجه لأن ‏{‏مِنَ المسلمين‏}‏ أبلغ من مسلماً كما تحقق في محله وفي ذلك قطع ما عسى أن يحول بينهم وبين إجابة دعوته والاتعاظ بعظته إلا أن القوم قد بلغوا الغاية في العناد والتمرد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏73‏]‏

‏{‏فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ ‏(‏73‏)‏‏}‏

‏{‏فَكَذَّبُوهُ‏}‏ أي فأصروا بعد أن لم يبق عليهم عليه السلام في قوس الإلزام منزعاً وفي كأس بيان أن لا سبب لتوليهم غير التمرد مكرعاً على ما هم عليه من التكذيب الدال عليه السباق واللحاق وهو عطف على جملة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالَ لِقَوْمِهِ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 71‏]‏ والفاء في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فنجيناه‏}‏ فصيحة في رأي أي فحقت عليهم كلمة العذاب فأنجيناه، وأنكر ذلك الشهاب وادعى أن ذكر ما يشير إليه في عبارة بعض المفسرين توطئة للتفريع لا إشارة إلى أن الفاء فصيحة، وأنا لا أرى فيه بأساً إلا أن تقدير فعاملنا كلا بما تقتضيه الحكمة ونحوه عندي أولى، ومتعلق الإنجاء محذوف أي من الغرق كما يدل عليه المقام، وقيل‏:‏ من أيدي الكفار أي فخلصناه من ذلك ‏{‏وَمَن مَّعَهُ‏}‏ من المؤمنين به وكانوا في المشهور أربعين رجلاً وأربعين امرأة وقيل دون ذلك ‏{‏فِى الفلك‏}‏ أي السفينة وهو مفرد ههنا، والجار كما قال الأجهوري وغيره متعلق بأنجيناه أي وقع الإنجاء في الفلك، ويجوز أن يتعلق بالاستقرار الذي تعلق به الظرف قبله الواقع صلة أي والذين استقروا معه في الفلك ‏{‏وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ‏}‏ عمن هلك بالإغراق بالطوفان وهو جمع خليفة ‏{‏فَكَذَّبُوهُ فأنجيناه والذين مَعَهُ‏}‏ وهم الباقون من قومه، والتعبير عنهم بالموصول للإيذان بعلية مضمون الصلة للإغراق وتأخير ذكره عن ذكر الإنجاء والاستخلاف لإظهار كمال العناية بشأن المقدم ولتعجيل المسرة للسامعين وللإيذان بسبق الرحمة التي هي من مقتضيات الربوبية على الغضب الذي هو من مستتبعات جرائم المجرمين ‏{‏فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المنذرين‏}‏ المخوفين بالله تعالى وعذابه والمراد بهم المكذبين، والتعبير عنهم بذلك للإشارة إلى إصرارهم على التكذيب حيث لم ينجع الإنذار فيهم ولم يفدهم شييئاً وقد جرت عادة الله تعالى أن لا يهلك قوماً بالاستئصال إلا بعد الإنذار لأن من أنذر فقد أعذر، والنظر كما قال الراغب يكون بالبصر والبصيرة والثاني أكثر عند الخاصة وسيق الكلام لتهويل ما جرى عليهم وتحذير من كذب بالرسول عليه الصلاة والسلام والتسلية له صلى الله عليه وسلم، والمراد اعتبر ما أخبر الله تعالى به لأنه لا يمكن أن ينظر إليه هو صلى الله عليه وسلم ولا من أنذره‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏74‏]‏

‏{‏ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ ‏(‏74‏)‏‏}‏

‏{‏ثُمَّ بَعَثْنَا‏}‏ أي أرسلنا ‏{‏مِن بَعْدِهِ‏}‏ أي من بعد نوح عليه الصلاة والسلام ‏{‏رُسُلاً‏}‏ أي كراماً ذوي عذر كثير فالتنكير للتفخيم والتكثير ‏{‏إلى قَوْمِهِمْ‏}‏ قيل أي إلى أقوامهم على معنى أرسلنا كل رسول الله إلى قوم خاصة مثل هود إلى عاد وصالح إلى ثمود وغير ذلك ممن قص منهم ومن لم يقص لا على معنى أرسلنا كل رسول منهم إلى أقوام الكل أو إلى قوم أي قوم كانوا، وفيه إشارة إلى أن عموم الرسالة إلى البشر لم يثبت لأحد من أولئك الرسل عليهم الصلاة والسلام، وظاهر كلامهم الإجماع على أن ذلك مخصوص بنبينا صلى الله عليه وسلم ولم يثبت لأحد ممن أرسل بعد نوح، واختلف فيه عليه السلام هل بعث إلى أهل الأرض كافة أو إلى أهل صقع منها، وعليه يبنى النظر في الغرق هل عم جميع أهل الأرض أو كان لبعضهم وهم أهل دعوته المكذبيين به كما هو ظاهر كثير من الآيات والأحاديث، قال ابن عطية‏:‏ الراجح عند المحققين هو الثاني، وكثير من أهل الأرض كأهل الصين وغيرهم ينكرون عموم الغرق، والأول لا ينافي القول باختصاص عموم الرسالة على العموم المشهور بين الخصوص والعموم بنبينا صلى الله عليه وسلم لأنها لمن بعده إلى يوم القيامة‏.‏

وزعم بعضهم أن الغرق كان عاماً مع خصوص البعثة ولا مانع من أن يهلك الله تعالى من لا جناية له مع من له جناية ولا اعتراض عليه سبحانه فيما ذكر إذ هو تصرف في خالص ملكه ولا يسئل عما يفعل‏.‏ وفي قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏واتقوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 25‏]‏ نوع إشارة إلى ذلك‏.‏ نعم قد ثبت لنون عليه السلام عموم الرسالة انتهاء حيث لم يبق على وجه الأرض بعد الطوفان سوى من كان معهم وهم جميع أهل الأرض إذ ذاك فالفرق بين رسالته عليه السلام ورسالة نبينا صلى الله عليه وسلم ظاهر فإن رسالة نبينا عليه الصلاة والسلام عامة ابتداء وانتهاء ورسالته عليه السلام عامة انتهاء لا ابتداء ولا يخلو عن نظر، والأولى أن يعتبر في اختصاص عموم رسالة نبينا عليه الصلاة والسلام كونها لمن بعده إلى يوم القيامة فإن عدم ثبوت ذلك لأحد من الرسل عليهم السلام قبل نوح وبعده مما لا يتنازع فيه، وهذا كله إذا لم يلاحظ في العموم الجن وكذا الملائكة إذا لوحظ كما يفيده قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لِيَكُونَ للعالمين نَذِيراً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 1‏]‏ فأمر الاختصاص أظهر وأظهر‏.‏

‏{‏فَجَاءوهُم‏}‏ أي فأتى كل رسول قومه المخصوصين به ‏{‏بالبينات‏}‏ أي بالمعجزات الواضحة الدالة على صدق ما يقولون، والباء إما متعلقة بما عندها على أنها للتعدية أو بمحذوف وقع حالا من الضمير المرفوع أي متلبسين بالبينات لكن لا بأن يأتي كل رسول ببينة فقط بل بأن يأتي ببينة أو ببينات كثيرة خاصة به معينة له حسب اقتضاء الحكمة، وإلى نفي إرادة الاتيان ببينة وإرادة الاتيان ببينات كثيرة ذهب شيخ الإسلام، ثم قال‏:‏ فإن مراعاة انقسام الآحاد على الآحاد إنما هي في ضميري ‏{‏جاؤوهم‏}‏ كما أشير إليه، ولعل صنيعنا أحسن من صنيعه، ويفهم من كلام بعض المحققين أن انفهام إرسال كل رسول إلى قومه من إشافة القوم إلى ضمير ‏{‏بَعْدِهِ رُسُلاً‏}‏ وليس ذلك من مقابلة الجمع بالجمع المقتضى لانقسام الآحاد على الآحاد، ولا شك أن انفهام مجيء كل رسول قومه المخصوصين به تابع لذلك‏.‏

وبعد هذا كله إذا اعتبر مقابلة الجمع بالجمع في جاؤوهم بالبينات، وقيل بانقسام الآحاد على الآحاد لا يلزم أن يكون لكل رسول بينة جاء بها كما أن باع القوم دوابهم لا يقتضي أن يكون لكل واحد من القوم دابة واحدة باعها فإن معناه باع كل من القوم ماله من الدواب وهم يعم الدابة الواحدة وغيرها، وهذا بخلاف ركب القوم دوابهم فإنه يتعين فيه إرادة كل واحدة من الدواب لاستحالة ركوب الشخص دابتين مثلا‏.‏ وقد نص العلامة أبو القاسم السمرقندي في حواشيه على المطول أنه لا يشترط في مقابلة الجمع بالجمع انقسام الآحاد على الآحاد بمعنى أن يكون لكل واحد من أحد الجمعين واحد من الجمع الآخر وهو ظاهر فيما قلنا، والمعول عليه في كون الآية من قبيل المثال الأول أمر خارج، فإن من المعلوم أن الرسول الواحد من الرسل عليهم السلام قد جاء قومه ببينات فوق الواحدة ‏{‏فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ‏}‏ بيان لاستمرار عدم إيمانهم في الزمان الماضي أي فما صح ولا استقام لهم في وقت من الأوقات أن يؤمنوا لشدة شكيمتهم ومزيد عنادهم، وضمير الجمع هنا للقوم المبعوث إليهم وكذا في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ‏}‏ والباء فيه صلة يؤمنوا و‏{‏مَا‏}‏ موصولة والمراد بها جميع الشرائع التي جاء بها كل رسول أصولها وفروعها، والمراد بعدم إيمانهم بها إصرارهم على ذلك بعد اللتيا والتي وبتكذيبهم من قبل تكذيبهم من حين مجيء الرسل عليهم السلام إلى زمان الاصرار والعناد، وهذا بناء على أن المحكي آخر أحوالهم حسبما يشير إليه حكاية قوم نوح عليه السلام، ولم يجعل التكذيب مقصوداً بالذات كما جعل عدم إيمانهم كذلك إيذاناً بأنه بين في نفسه غني عن البيان، وإنما المحتاج إليه عدم إيمانهم بعد تواتر البينات وتظاهر المعجزات التي كانت تضطرهم إلى القبول لو كانوا من أهل العقول، وإذا كان المحكى جميع أحوال أولئك الأقوام فالمراد بعدم إيمانهم المفاد بالنفي السابق كفرهم المستمر من حين مجيء الرسل عليهم السلام إلى زمان إصرارهم وبعدم إيمانهم المفهوم من جملة الصلة كفرهم قبل مجيء الرسل عليهم السلام، ويراد حينئذ من الموصول أصول الشرائع التي أجمعت عليها الرسل قاطبة ودعوا أممهم إليها كالتوحيد ولوازمه مما يستحيل تبدله وتغيره ومعنى تكذيبهم بذلك قبل مجيء رسلهم أنهم ما كانوا أهل جاهلية بحيث لم يسمعوا بذلك قط بل كأن كل قوم يتسامعون به من بقايا من قبلهم فيكذبونه ثم كانت حالهم بعد مجيء الرسل كحالهم قبل ذلك كأن لم يبعث إليهم أحد، وقيل‏:‏ المراد أنهم لم ينتفعوا بالبعثة وكانت حالهم بعد البعثة كحالهم قبلها في كونهم أهل جاهلية والأول أولى، وتخصيص التكذيب وعدم الإيمان بما ذكر من الأصول لظهور حال الباقي بدلالة النص، فإنهم حيم لم يؤمنوا بما اجتمعت عليه الكافة فلأن لا يؤمنوا بما تفرد به البعض أولى، وعدم جعل هذا التكذيب مقصوداً بالذات لأن ما عليه يدور أمر العذاب عند اجتماع التكذيبين هو التكذيب الواقع بعد البعثة والدعوة حسبما يعرب عنه قوله تعالى‏:‏

‏{‏وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 15‏]‏ وإنما ذكر ما وقع قبل بيانا لعراقتهم في الكفر والتكذيب، وفكك بعضهم بين الضمائر فقيل‏:‏ ضمير ‏{‏كَانُواْ‏}‏ و‏{‏يُؤْمِنُواْ‏}‏ لقوم الرسل وضمير ‏{‏كَذَّبُواْ‏}‏ لقوم نوح عليه السلام أي ما كان قوم الرسل ليؤمنوا بما كذب به قوم نوح أي بمثله، والمراد به ما بعث الرسل عليهم السلام لإبلاغه‏.‏

وجوز على هذا القول أن يراد بالموصول نوح نفسه أي ما كان قوم الرسل ليؤمنوا بنوح عليه السلام إذ لو آمنوا به آمنوا بأنبيائهم عليهم السلام ولا يخفى ما في ذلك، ومن الناس من جعل الباء سببية ودما‏}‏ مصدرية والمعنى كذبوا رسلهم فكان عقابهم من الله تعالى أنهم لم يكونوا ليؤمنوا بسبب تكذيبهم من قبل وأيده بالآية الآتية، وفيه مخالفة الجمهور من جعل ‏{‏‏}‏ مصدرية والمعنى كذبوا رسلهم فكان عقابهم من الله تعالى أنهم لم يكونوا ليؤمنوا بسبب تكذيبهم من قبل وأيده بالآية الآتية، وفيه مخالفة الجمهور من جعل ‏{‏مَا‏}‏ المصدرية إسما كما هو رأي الأخفش‏.‏ وابن السراج ليرجع الضمير إليها، وفي إرجاعه إلى الحق بادعاء كونه مركوزاً في الاذهان ما لا يخفى من التعسف، وقيل‏:‏ ‏{‏مَا‏}‏ موصوفة والباء للسببية أيضاً أو للملابسة أي بشيء كذبوا به وهو العناد والتمرد وهو كما ترى ‏{‏كذلك‏}‏ أي مثل ذلك الطبع المحكم ‏{‏نَطْبَعُ‏}‏ فالإشارة على حد ما قرر في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وكذلك جعلناكم أُمَّةً وَسَطًا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 143‏]‏ ونظائره مما مر، وجعل الإشارة إلى الاغراق كما فعل الخازن ليس بشيء، والطبع يطلق على تأثير الشيء بنقش الطابع وعلى الأثر الحاصل عن النقش والختم مثله في ذلك على ما ذكره الراغب أيضاً، وذكر أنه تصور الشيء بصورة ما كطبع السكة وطبع الدراهم وأنه أعم من الختم وأخص من النقش، والأكثرون على تفسيره بالختم مراداً به المنع أي نختم ‏{‏على قُلوبِ المعتدين‏}‏ أي المتجاوزين عن الحدود المعهودة في الكفر والعناد ونمنعها لذلك عن قبول الحق وسلوك سبيل الرشاد، وقد جاء الطبع بمعنى الدنس ومنه طبع السيف لصدئه ودنسه، وبعضهم حمل ما في الآية على ذلك، وفسره المعتزلة حيث وقع منسوباً إليه تعالى بالخذلان تطبيقاً له على مذهبهم، ومن هنا قال الزمخشري‏:‏ إنه جار مجرى الكناية عن عنادهم ولجاجهم لأن من عاند وثبت على اللجاج خذله الله تعالى ومنعه التوفيق واللطف فلا يزال كذلك حتى يتراكم الرين والطبع على قلبه، ومراده كما قيل أن ‏{‏نَطْبَعُ‏}‏ بمعنى نخذل على سبيل الاستعارة التصريحية التبعية لكن لما كان الطبع الذي هو الخذلان تابعاً لعنادهم ولجاجهم لازماً لهما أجرى مجرى الكناية عنهما‏.‏ وقرىء ‏{‏يَطْبَعُ‏}‏ بالياء على أن الضمير لله سبحانه وتعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏75‏]‏

‏{‏ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآَيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ ‏(‏75‏)‏‏}‏

‏{‏ثُمَّ بَعَثْنَا‏}‏ عطف على ‏{‏ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلاً إلى قَوْمِهِمْ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 74‏]‏ عطف قصة على قصة ‏{‏مّن بَعْدِهِمْ‏}‏ أي من بعد أولئك الرسل عليهم السلام ‏{‏موسى وهارون‏}‏ أوثر التنصيص على بعثتهما عليهما السلام مع ضرب تفصيل إيذاناً بخطر شأن القصة وعظم وقعها ‏{‏إلى فِرْعَوْنَ‏}‏ أي أشراف قومه الذين يحتمعون على رأي فيملأون العين رواء والنفوس جلالة وبهاء، وتخصيصهم بالذكر لأصالتهم في إقامة المصالح والمهمات ومراجعة الكل إليهم في النوازل والملمات، وقيل‏:‏ المراد بهن هنا مطلق القوم من استعمال الخاص في العام ‏{‏جَاءهُم بئاياتنا‏}‏ أي أدلتنا ومعجزاتنا وهي الآيات المفصلات في الاعراف والباء للملابسة أي متلبسين بها ‏{‏فاستكبروا‏}‏ أي تكبروا وأعجبوا بأنفسهم وتعظموا عن الاتباع، والفاء فصيحة أي فأتياهم فبلغاهم الرسالة فاستكبروا، وأشير بهذا الاستكبار إلى ما وقع منهم أول الأمر من قول اللعين لموسى عليه السلام‏:‏ ‏{‏أَلَمْ نُرَبّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 18‏]‏ وغير ذلك ‏{‏وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ‏}‏ جملة معترضة تذييلية وجوز فيها الحالية بتقدير قد، وعلى الوجهين تفيد اعتيادهم الاجرام وهو فعل الذنب العظيم، أي وكانوا قوماً شأنهم ودأبهم ذلك‏.‏

وقد يؤخذ مما ذكر تعليل استكبارهم، والحمل على العطف الساذج لا يناسب البلاغة القرآنية ولا يلائمها فمعلوم هذا القدر من سوابق أوصافهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏76‏]‏

‏{‏فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ ‏(‏76‏)‏‏}‏

‏{‏فَلَمَّا جَاءهُمُ الحق مِنْ عِندِنَا‏}‏ الفاء فصيحة أيضاً معربة عما صرح به في مواضع أخر كأنه قيل‏:‏ قال موسى‏:‏ قد جئتكم ببينة من ربكم إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فألقى عَصَاهُ فَإِذَا هِىَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِىَ بَيْضَاء للناظرين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 107 108‏]‏ فلما جاءهم الحق ‏{‏قَالُواْ‏}‏ من فرط عنادهم وعتوهم مع تناهي عجزهم‏:‏

‏{‏إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ‏}‏ أي ظاهر كونه سحرا أو واضح في بابه فائق فيما بين أضرابه فمبين من أبان بمعنى ظهر واتضح لا بمعنى أظهر وأوضح كما هو أحد معنييه، والإشارة إلى الحق الذي جاءهم، والمراد به كما قال غير واحد الآيات، وقد أقيم مقام الضمير للإشارة إلى ظهور حقيته عند كل أحد، ونسبة المجيء إليه على سبيل الاستعارة تشير أيضاً إلى غاية ظهوره وشدة سطوعه بحيث لا يخفى على من له أدنى مسكة، ومن هنا قيل في المعنى‏:‏ فلما جاءهم الحق من عندنا وعرفوه قالوا الخ، فالاعتراض عليه بأنه لا دلالة في الكلام على هذه المعرفة وإنما تعلم من موضع آخر كقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتها أَنفُسُهُمْ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 14‏]‏ من قلة المعرفة لظهور دلالة ما علمت، وكذا ما قالوا بناء على ما قيل من دلالته على الاعتراف وتناهى العجز عليها، وقرىء ‏{‏لساحر‏}‏ وعنوا به موسى عليه السلام لأنه الذي ظهر على يده ما أعجزهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏77‏]‏

‏{‏قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ ‏(‏77‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ موسى‏}‏ استئناف بياني كأنه قيل‏:‏ فماذا قال لهما موسى عليه السلام‏؟‏ فقيل‏:‏ قال لهم على سبيل الاستفهام الإنكاري التوبيحي‏:‏ ‏{‏أَتقُولُونَ لِلْحَقّ‏}‏ الذي هو أبعد شيء من السحر الذي هو الباطل البحت ‏{‏لَمَّا جَاءكُمْ‏}‏ أي حين مجيئه إياكم ووقوفكم عليه وهو الذي يقتضيه ما أشير إليه آنفاً، أو من أول الأمر من غير تأمل وتدبر كما قيل، وإياما كان فهو مما ينافي القول الذي في حيز الاستفهام، والمقول محذوف ثقة بدلالة ما قبل وما بعد عليه وإيذاناً بأنه مما لا ينبغي أن يتفوه به ولو على نهج الحكاية، أي أتقولون له ما تقولون من أنه سحر مبين‏؟‏ يعني به أنه مما لا يمكن أن يقوله قائل ويتكلم به متكلم، وجوز أن يكون مقول القول قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏أَسِحْرٌ هذا‏}‏ على أن مقصودهم بالاستفهام تقريره عليه السلام لا الاستفهام الحقيقي لأنهم قد بتوا القول بأنه سحر فكيف يستفهمون عنه، والمحكي في أحد الموضعين مفهوم قولهم ومعناه وإلا فالقصة واحدة والصادر فيها بحسب الظاهر إحدى المقالتين ولا يخفي ضعفه، وأن يكون القول بمعنى العيب والطعن من قولهم‏:‏ فلأن يخاف القالة وبين الناس تقاول إذا قال بعضهم لبعض ما يسوءه، ونظيره الذكر في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إبراهيم‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 60‏]‏ وحينئذ يستغني عن المفعول، واللام لبيان المطعون فيه كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هَيْتَ لَكَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 23‏]‏ أي أتعيبونه وتطعنون فيه، وعلى هذا الوجه وكذا الوجه الأول يكون قول سبحانه‏:‏ ‏{‏أَسِحْرٌ هذا‏}‏ إنكاراً مستأنفاً من جهة موسى عليه السلام لكونه سحراً وتكذيب لقولهم وتوبيخ لهم عليه إثر توبيخ وتجهيل إثر تجهيل، أما على الوجه المتقدم فظاهر، وأما على الوجه الأخير فوجه إيثار إنكار كونه سحراً على إنكار كونه معيباً بأن يقال‏:‏ أفيه عيب‏؟‏ حسبما يقتضيه ظاهر الإنكار السابق التصريح بالرد عليهم في خصوصية ما عابوه به بعد التنبيه بالإنكار الأول على أنه ليس فيه شائبة عيب ما، وتقديم الخبر للإيذان بأنه مصب الإنكار، وما في اسم الإشارة من معنى القرب لزيادة تعيين المشار إليه واستحضار ما فيه من الصفات الدالة على كونه آية باهرة من آيات الله تعالى المنادية على امتناع كونه سحراً، أي أسحر هذا الذي أمره واضح مكشوف وشأنه مشاهد معروف بحيث لا يرتاب فيه أحد ممن له عين مبصرة، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلاَ يُفْلِحُ الساحرون‏}‏ تأكيد للإنكار السابق وما فيه من التوبيخ والتجهيل، وقد استلزم القول بكونه سحراً القول بكون من أتى به ساحراً، والجملة في موضع الحال من ضمير المخاطبين والرابط الواو بلا ضمير كما في قوله

‏:‏ جاء الشتاء ولست أملك عدة *** وقولك‏:‏ جاء زيد ولم تطلع الشمس، أي أتقولون للحق إنه سحر والحال أنه لا يفلح فاعله أي لا يظفر بمطلوب ولا ينجو من مكروه وأنه قد أفلحت وفزت بالحجة ونجوت من الهلكة، وجملة ‏{‏أَسِحْرٌ هذا‏}‏ معترضة بين الحال وذيها لتأكيد الإنكار السابق ببيان استحالة كونه سحراً بالنظر إلى ذاته قبل بيان استحالته بالنظر إلى صدوره منه عليه السلام، ومن جعلها مقول القول أبقى الحالية على حالها ولا اعتراض عنده، وكان المعنى على ذلك أتحملوني على الإقرار بأنه سحر وما أنا عليه من الفلاح دليل على أن بينه وبين السحر أبعد مما بين المشرق والمغرب، وقيل‏:‏ يجوز أن تكون هذه الجملة كالتي قبلها في حيز قولهم وهي حالية أيضاً لكن على نمط آخر والاستفهام مصروف إليها، والمعنى أجئتنا بسحر تطلب به الفلاح والحال أنه لا يفلح الساحر، أو هم يتعجبون من فلاحه وهو ساحر، ولا يخفى أن السباق والسياق يأبيان هذا التجويز فلا ينبغي حمل النظم الجليل على ذلك، وفي إرشاد العقل السليم أن تجويز أن يكون الكل مقول القول مما لا يساعده النظم الكريم أصلاً، أما أولاً فون ما قالوا هو الحكم بأنه سحر من غير أن يكون فيه دلالة على ما تعسف فيه من المعنى بوجه من الوجوه، فصرف جوابه عليه السلام عن صريح ما خاطبوه به إلى ما لا يفهم منه مما يجب تنزيه التنزيل عن أمثاله؛ وكون ذلك اعراضاً عن رد الإنكار السابق إلى رد ما هو أبلغ منه في الإنكار لا أراه يحسن الالتفات هنا إلى قبول ذلك التجويز في كلام الله تعالى العزيز‏.‏

وأما ثانياً فلأن التعرض لعدم افلاح السحرة على الإطلاق من وظائف من يتمسك بالحق المبين دون الكفرة المتشبثين بأذيال بعض منهم في معارضته عليه السلام ولو كان ذلك من كلامهم لناسب تخصيص عدم الإفلاح بمن زعموه ساحراً بناء على غلبة من يأتون به من السحرة، والاعتذار بأن التشبث بأذيال بعض السحرة لا ينافي التعرض لعدم إفلاحهم على الإطلاق لجواز أن يكون اعتقادهم عدم الإفلاح مطلقاً وتشبثهم بعد بما تشبثوا به من باب تلقي الباطل بالباطل لا أراه إلا من باب تشبث الغريق بالحشيش، وأما ثالثاً

‏[‏بم فلأن قوله عز وجل‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏78‏]‏

‏{‏قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ ‏(‏78‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُواْ أَجِئْتَنَا‏}‏ الخ مسوق لبيان أنه عليه السلام ألقمهم الحجر فانقطعوا عن الاتيان بكلام له تعلق بكلامه عليه السلام فضلاً عن الجواب الصحيح واضطروا إلى التشبث بذيل التقليد الدي هو دأب كل عاجز محجوج وديدن كل معالج لجوج على أنه استئناف وقع جواباً عما قبله من كلامه صلى الله عليه وسلم على طريقة ‏{‏قَالَ موسى‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 77‏]‏ كما أشير إليه كأنه قيل‏:‏ فماذا قالوا لموسى عليه السلام حين قال لهم ما قال‏؟‏ فقيل‏:‏ قالوا عاجزين عن المحاجة‏:‏ أجئتنا ‏{‏لِتَلْفِتَنَا‏}‏ أي لتصرفنا، وبين اللفت والفتل مناسبة معنوية واشتقاقية وقد نص غير واحد على أنهما أخوان وليس أحدهما مقلوباً من الآخر كما قال الأزهري ‏{‏عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءابَاءنَا‏}‏ أي من عبادة غير الله تعالى، ولا ريب في أن ذلك إنما يتسنى بكون ما ذكر من تتمة كلامه عليه السلام على الوجه الذي شرح إذ على تقدير كونه محكياً من قبلهم يكون جوابه عليه السلام خالياً عن التبكيت الملجىء لهم إلى العدول عن سنن المحاجة، ولا ريب في أنه لا علاقة بين قولهم‏:‏ ‏{‏أَجِئْتَنَا‏}‏ الخ وبين إنكاره عليه السلام لما حكي عنهم مصححة لكونه جواباً عنه، وهذا ظاهر إلا على من حجب عن إدراك البديهيات، وبالجملة الحق أن لا وجه لذلك التجويز بوجه والانتصار له من الفضول كما لا يخفى ‏{‏وَتَكُونَ لَكُمَا الكبرياء‏}‏ أي الملك كما ريو عن مجاهد فهو من إطلاق الملزوم وإرادة اللازم، وعن الزجاج أنه إنما سمي الملك كبرياء لأنه أكبر ما يطلب من أمر الدنيا، وقيل‏:‏ أي العظمة والتكبر على الناس باستتباعهم‏.‏ وقرأ حماد بن يحيى عن أبي بكر‏.‏ وزيد عن يعقوب ‏{‏يَكُونَ‏}‏ بالياء التحتانية لأن التأنيث غير حقيقي مع وجود الفاصل‏.‏

‏{‏فِى الارض‏}‏ أي أرض مصر، وقيل‏:‏ أريد الجنس، والجار متعلق بتكون أو بالكبرياء أو بالاستقرار في لكما لوقوعه خبراً أو بمحذوف وقع حالاً من ‏{‏الكبرياء‏}‏ أو من الضمير في ‏{‏لَّكُمَا‏}‏ لتحمله إياه ‏{‏وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ‏}‏ أي بمصدقين فيما جئتما به أصلاً، وفيه تأكيد لما يفهم من الإنكار السابق، والمراد بضمير المخاطبين موسى وهارون عليهما السلام، وإنما لم يفردوا موسى عليه السلام بالخطاب هنا كما أفردوه به فيما تقدم لأنه المشافه لهم بالتوبيخ والإنكار تعظيماً لأمر ما هو أحد سبى الأعراض معنى ومبالغة في إغاظة موسى عليه السلام وإقناطه عن الإيمان بما جاء به، وفي إرشاد العقل السليم أن تثنية الضمير في هذين الموضعين بعد أفراده فيما تقدم من المقامين باعتبار شمول الكبرياء عليهما السلام واستلزام التصديق لأحدهما التصديق للآخر، وأما اللفت والمجيء له فحيث كانا من خصائص صاحب الشريعة أسند إلى موسى عليه السلام خاصة انتهى فتدبر

تفسير الآية رقم ‏[‏79‏]‏

‏{‏وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ ‏(‏79‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَالَ فِرْعَوْنُ‏}‏ أسند الفعل إليه وحده لأن الأمر من وظائفه دون الملأ وهذا بخلاف الأفعال السابقة من الاستكبار ونحوه فإنها مما تسند إليه وإلى ملئه، لكن الظاهر أنه غير داخل في القائلين ‏{‏قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 78‏]‏ لأنه عليه اللعنة لم يكن يظهر عبادة أحد كما كان يفعله ملؤه وسائر قومه، أي قال لملئه يأمرهم بترتيب مبادي الالزام بالفعل بعد اليأس عن الالزام بالقول ‏{‏ائتونى بِكُلّ ساحر عَلِيمٍ‏}‏ بفنون السحر حاذق ماهر فيه‏.‏ وقرأ حمزة‏.‏ والكسائي ‏{‏ساحر‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏80‏]‏

‏{‏فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ ‏(‏80‏)‏‏}‏

‏{‏فَلَمَّا جَاء السحرة‏}‏ عطف على مقدر يستدعيه المقام قد حذف إيذاناً بسرعة امتقالهم لومر كما هو شأن الفاء الفصيحة، وقد نص على نظير ذلك في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَقُلْنَا اضرب بّعَصَاكَ الحجر فانفجرت‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 60‏]‏ أي فأتوا به فلما جاؤوا ‏{‏قَالَ لَهُمْ موسى أَلْقُواْ مَا أَنتُمْ مُّلْقُونَ‏}‏ أي ما ثبتم واستقر رأيكم على إلقائه كائناً ما كان من أصنف السحر، وأصل الالقاء طرح الشيء حيث تلقاه أي تراه ثم صار في العرف أسماً لكل طرح، وكان هذا القول منه عليه السلام بعد ما قالوا له ما حكى عنهم في السور الأخر من قولهم‏:‏ ‏{‏إِمَّا أَن تُلْقِىَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ نَحْنُ الملقين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 115‏]‏ ونحو ذلك ولم يكن في إبتداء مجيئهم، و‏{‏مَا‏}‏ موصولة والجملة بعدها صلة والعائد محذوف أي ملقون إياه، ولا يخفى ما في الإبهام من التحقير والاشعار بعدم المبالاة، والمراد أمرهم بتقديم ما صمموا على فعله ليظهر إبطاله وليس المراد الأمر بالسحر والرضا به‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏81‏]‏

‏{‏فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ ‏(‏81‏)‏‏}‏

‏{‏فَلَمَّا أَلْقُوْاْ‏}‏ ما ألقوا من العصى والحبال واسترهبوا الناس وجاؤوا بسحر عظيم ‏{‏قَالَ‏}‏ لهم ‏{‏موسى‏}‏ غير مكترث بهم وبما صنعوا ‏{‏مَا جِئْتُمْ بِهِ السحر‏}‏ ‏{‏مَا‏}‏ موصولة وقعت مبتدأ و‏{‏السحر‏}‏ خبر وأل فيه للجنس والتعريف لإفادة القصر إفراداً أي الذي جئتم به هو السحر لا الذي سماه فرعون وملؤه من آيات الله تعالى سحراً وهو للجنس، ونقل عن الفراء أن أل للعه، لتقدم السحر في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ هذا لساحر‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 76‏]‏ ورد بأن شرط كونها للعهد اتحاد المتقدم والمتأخر ذاتاً كما في ‏{‏أَرْسَلْنَا إلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فعصى فِرْعَوْنُ الرسول‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 15، 16‏]‏ ولا اتحاد فيما نحن فيه فإن السحر المتقدم ما جاء به موسى عليه السلام وهذا ما جاء به السحرة‏.‏ ومن الناس من منع اشتراط الاتحاد الذاتي مدعياً أن الاتحاد في الجنس كاف فقد قالوا في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والسلام على‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 33‏]‏ إن أل للعهد مع أن السلام الواقع على عيسى عليه السلام غير السلام الواقع على يحيى عليه السلام ذاتاً، والظاهر اشتراط ذلك وعدم كفاية الاتحاد في الجنس وإلا لصح في رأيت رجلاً وأكرمت الرجل إذا كان الأول زيداً والثاني عمراً مثلاً أن يقال‏:‏ إن أل للعه، لأن الاتحاد في الجنس ظاهر ولم نجد من يقوله بل لا أظن أحداً تحدثه نفسه بذلك وما في الآية من هذا القبيل بل المغايرة بين المتقدم والمتأخر أظهر إذ الأول سحر ادعائي والثاني حقيقي، و‏{‏السلام‏}‏ فيما نقوا متحد وتعدد من وقع عليه لا يجعله متعدداً في العرف والتدقيق الفلسفي لا يلتفت إليه في مثل ذلك‏.‏

وقد ذكر بعض المحققين أن القول يكون التعريف للعهد مع دعوى استفادة القصر منه مما يتنافيان لأن القصر إنما يكون إذا كان التعريف للجنس‏.‏ نعم إذا لم يرد بالنكرة المذكورة أولاً معين ثم عرفت لا ينافي التعريف الجنسية لأن النكرة تساوي تعريف الجنس فحينئذ لا ينافي تعريف العهد القصروان كان كلامهم يخالفه ظاهراً فليحرر انتهى‏.‏ وأقول‏:‏ دعوى الفراء العهد هنا مما لا ينبغي أن يلتفت إليه، ولعله أراد الجنس وأن عبر بالعهد بناء على ما ذكره الجلال السيوطي في همع الهوامع نقلاً عن ابن عصفور أنه قال‏:‏ لا يبعد عندي أن يسمى الألف واللام اللتان لتعريف الجنس عهديتين لأن الأجناس عند العقلاء معلومة مذ فهموها والعهد تقدم المعرفة‏.‏ وادعى أبو الحجاج يوسف بن معزوز أن أل لا تكون إلا عهدية وتأوله بنحو ما ذكر إلا أن ظاهر التعليل لا يساعد ذلك‏.‏ وقرأ عبد الله ‏{‏ساحر‏}‏ بالتنكير، وأبى ‏{‏مَّا ءاتَيْتُم بِهِ ساحر‏}‏ والكلام على ذلك مفيد للقصر أيضاً لكن بواسطة التعريض لوقوعه في مقابلة قولهم‏:‏

‏{‏إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 76‏]‏ وجوز في ‏{‏مَا‏}‏ في جميع هذا القراآت أن تكون استفهامية و‏{‏السحر‏}‏ خبر مبتدأ محذوف‏.‏ وقرأ أبو عمرو‏.‏ وأبو جعفر ‏{‏السحر‏}‏ بقطع الألف ومدها على الاستفهام فما استفهامية مرفوعة على الابتداء و‏{‏جِئْتُمْ بِهِ‏}‏ خبرها و‏{‏السحر‏}‏ خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ خبره محذوف، أي شيء جسيم جئتم به أهو السحر أو السحر هو، وقد يجعل السحر بدلاً من ‏{‏مَا‏}‏ كما تقول ما عندك أدينار أم درهم، وقد تجعل ‏{‏مَا‏}‏ نصباً بفعل محذوف يقدر بعدها أي أي شيء أتيتم به و‏{‏جِئْتُمْ بِهِ‏}‏ مفسر له وفي ‏{‏السحر‏}‏ الوجهان الأولان‏.‏

وجوز أن تكون موصولة مبتدأ والجملة الاسمية أي أهو السحر أو السحر هو خبره، وفيه الأخبار بالجملة الإنشائية، ولا يجوز أن تكون على هذا التقدير منصوبة بفعل محذوف يفسره المذكور لأن ما لا يعمل لا يفسر عاملاً‏.‏

‏{‏إِنَّ الله سَيُبْطِلُهُ‏}‏ أي سيمحقه بالكلية بما يظهره على يدي من المعجزة فلا يبقى له أثر أصلاً أو سيظهر بطلانه وفساده للناس، والسين للتأكيد ‏{‏إِنَّ الله لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ المفسدين‏}‏ أي جنسهم على الإطلاق فيدخل فيه السحرة دخولاً أولياً، ويجوز أن يراد بالمفسدين المخاطبون فيكون من وضع الظاهر موضع الضمير للتسجيل عليهم بالافساد والاشعار بعلة الحكم، والجملة تذييل لتعليل ما قبلها وتأكيده، والمراد بعدم إصلاح ذلك عدم إثباته أو عدم تقويته بالتأييد الإلهي لا عدم جعل الفاسد صالحاً لظهور أن ذلك مما لا يكون أي أنه سبحانه لا يثبت عمل المفسدين ولا يديمه بل يزيله ويمحقه أو لا يقويه ولا يؤيده بل يظهر بطلانه ويجعله معلوماً‏.‏

واستدل بالآية على أن السحر إفساد وتمويه لا حقيقة له‏.‏ وأنت تعلم أن في اطلاق القول بأن السحر لا حقيقة له بحثاً، والحق أن منه ما له حقيقة ومنه ما هو تخيل باطل ويسمى شعبذة وشعوذة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏82‏]‏

‏{‏وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ‏(‏82‏)‏‏}‏

‏{‏وَيُحِقُّ الله الحق‏}‏ أي يثبته ويقويه وهو عطف على قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏سَيُبْطِلُهُ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 81‏]‏ وإظهار الاسم الجليل في المقامين لإلقاء الروعة وتربية المهابة ‏{‏بكلماته‏}‏ أي بأوامره وقضاياه، وعن الحسن أي بوعده النصر لمن جاء به وهو سبحانه لا يخلف ذلك، وعن الجبائي أي بما ينزله مبيناً لمعاني الآيات التي أتى بها نبيه عليه السلام‏.‏ وقرىء ‏{‏بكلماته‏}‏ وفسرت بالأمر واحد الأوامر حسبما فسرت الكلمات بالأوامر وأريد منها الجنس فيتطابق القراءتان، وقيل‏:‏ يحتمل أن يراد بها قول كن وأن يراد بها الأمر واحد الأمور ويراد بالكلمات الأمور والشؤون ‏{‏وَلَوْ كَرِهَ المجرمون‏}‏ ذلك، والمراد بهم كل من اتصف بالإجرام من السحرة وغيرهما‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏83‏]‏

‏{‏فَمَا آَمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ ‏(‏83‏)‏‏}‏

‏{‏فَمَا ءامَنَ لموسى‏}‏ عطف على مقدر فصل في موضع آخر أي فألقى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون الخ، وإنما لم يذكر تعويلاً على ذلك وإيثار للإيجاز وإيذاناً بأن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله سَيُبْطِلُهُ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 81‏]‏ مما لا يحتمل الخلف أصلاً، ولعل عطفه على ذلك بالفاء باعتبار الإيجاب الحادث الذي هو أحد مفهومي الحصر، فانهم قالوا‏:‏ معنى ما قام إلا زيد قام زيد ولم يقم غيره، وبعضهم لم يعتبر ذلك وقال‏:‏ إن عطفه بالفاء على ذلك مع كونه عدماً مستمراً من قبيل ما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاتبعوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 97‏]‏ وما في قولك‏:‏ وعظته فلم يتعظ وصحت به فلم ينزجر، والسر في ذلك أن الاتيان بالشيء بعد ورود ما يوجب الإقلاع عنه وإن كان استمراراً عليه لكنه بحسب العنوان فعل جديد وضع حادث أي فما آمن عليه السلام في مبدى أمره ‏{‏إِلاَّ ذُرّيَّةٌ مّن قَوْمِهِ‏}‏ أي إلا أولاد بعض بني إسرائيل دعا عليه السلام الآباء فلم يجيبوه خوفاً من فرعون وأجابته طائفة من شبانهم، فالمراد من الذرية الشبان لا الأطفال‏.‏ و‏{‏مِنْ‏}‏ للتبعيض، وجوز أن تكون للابتداء والتبعيض مستفاد من التنوين، والضمير لموسى عليه السلام كما هو إحدى الروايتين عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وأخرج ابن جرير عنه أن الضمير لفرعون وبه قال جمع، فالمؤمنون من غير بني إسرائيل ومنهم زوجته آسية وماشطته ومؤمن آل فرعون والخازن وامرأته، وفي إطلاق الذرية على هؤلاء نوع خفاء‏.‏ ورجح بعضهم ارجاع الضمير لموسى عليه السلام بأنه المحدث عنه وبأن المناس على القول الآخر الاضمار فيما بعد، ورجح ابن عطية ارجاع الضمير لفرعون بأن المعروف في القصص أن بني إسرائيل كانوا في قهر فرعون وكانوا قد بشروا بأن خلاضهم على يد مولود يكون نبياً صفته كذا كذا فلما ظهر موسى عليه السلام اتبعوه ولم يعرف أن أحداً منهم خالفه فالظاهر القول الثاني، وما ذكر من أن المحدث عنه موسى عليه السلام لا يخلو عن شيء، فإن لقائل أن يقابل ذلك بأن الكلام في قوم فرعون لأنهم القائلون إنه ساحر ولأن وعظ أهل مكة وتخويفهم المسوق له الآيات قاض بأن المقصود هنا شرح أحوالهم‏.‏ وأنت تعلم أن للبحث في هذا مجالاً والمعروف بعد تسليم كونه معروفاً لا يضر القول الأول لأن المراد حينئذ فما أظهر إيمانه وأعلن به الاذرية من بني إسرائيل دون غيرهم فانهم أخفوه ولم يظهروه ‏{‏على خَوْفٍ‏}‏ حال من ذرية و‏{‏على‏}‏ بمعنى مع كما قيل في قوله تاعلى‏:‏ ‏{‏وَءاتَى المال على حُبّهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 177‏]‏ والتنوين للتعظيم أي كائنين مع خوف عظيم ‏{‏مِن فِرْعَوْنَ‏}‏ الضمير لفرعون، والجمع عند غير واحد على ما هو المعتاد في ضمائر العظماء‏.‏

ورد بأن الوارد في كلام العرب الجمع في ضمير المتكلم كنحن وضمير المخاطب كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏رَبّ ارجعون‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 99‏]‏ وقوله‏:‏ ألا فارحموني يا اله محمد *** ولم ينقل في ضمير الغائب كما نقل عن الرضى، وأجيب بأن الثعالبي‏.‏ والفارسي نقلاً في الغائب أيضاً والمثبت مقدم على النافي، وبأنه لا يناسب تعظيم فرعون فإن كان على زعمه وزعم قومه فإنما يحسن في كلام ذكر أنه محكى عنهم وليس فليس‏.‏ ويجاب بأن المراد من التعظيم تنزيله منزلة المتعدد، وكونه لا يناسب في حيز المنع، لم لا يجوز أن يكون مناسباً لما فيه من الإشارة إلى مزيد عظم الخوف المتضمن زيادة مدح المؤمنين‏؟‏ وقيل‏:‏ إن ذلك وارد على عادتهم في محاوراتهم في مجرد جمع ضمير العظماء وإن لم يقصد التعظيم أصلاً فتأمله، وجوز أن يكون الجمع لأن المراد من ‏{‏فِرْعَوْنُ‏}‏ آله كما يقال‏:‏ ربيعة‏.‏ ومضر‏.‏ واعترض عليه بأن هذا إنما عرف في القبيلة وأبيها إذ يطلق اسم الأب عليهم وفرعون ليس من هذا القبيل، على أنه قد قيل‏:‏ إن اطلاق أبي نحو القبيلة عليها لا يجوز ما لم يسمع ويتحقق جعله علماً لها، ألا تراهم لا يقولون‏:‏ فلان من هاشم ولا من عبد المطلب بل من بني هاشم وبني عبد المطلب فكيف يراد من فرعون آله ولم يتحقق فيه جعله علماً لهم، ودعوى التحقق هنا أول المسألة فالقول بأن الجمع لأن المراد به آله كربيعة ليس بشيء إلا أن يراد أن فرعون ونحوه من الملوك إذا ذكر خطر بالباب خطر أتباعه معه فعاد الضمير على ما في الذهن، وتمثيله بما ذكر لأنه نظيره فـ الجملة، ثم إنه لا يخفى أنه إذا أريد من فرعون آله ينبغي أن يراد من ‏{‏فِرْعَوْنَ أَشَدَّ‏}‏ فرعون وآله على التغليب، وقيل‏:‏ إن الكلام على حذف مضاف أي آل فرعون فالضمير راجع إلى ذلك المحذوف، وفيه أن الحذف يعتمد القرينة ولا قرينة هنا، وضميير الجمع يحتمل رجوعه لغير ذلك المحذوف كما ستعلمه قريباً إن شاء الله تعالى فلا يصلح لأن يكون قرينة، وأما أن المحذوف لا يعود إليه ضمير كما قال أبو البقاء فليس بذاك لأنه إن أريد أنه لا يعود إليه مطلقاً فغير صحيح؛ وإن أريد إذا حذف لقرينة فممنوع لأنه حينئذٍ في قوا المذكور، وقد كثير عود الضمير إليه كذلك في كلام العرب، وقريب من هذا القيل زعم أن هناك معطوفاً محذوفاً إليه يعود الضمير أي على خوف من فرعون وقومه وملئهم، ويرد عليه أيضاً ما قيل‏:‏ إن هذا الحذف ضعيف غير مطرد‏.‏

وقيل‏:‏ الضمير للذرية أو للقوم أي على خوف من فرعون ومن أشراف بني إسرائيل حيث كانوا يمنعونهم خوفاً من فرعون عليهم أو على أنفسهم، أو من أشراف القبط ورؤسائهم حيث كانوا يمنعونهم انتصاراً لفرعون، ولعل المنساق إلى الذهن رجوعه إلى الذرية والجمع باعتبار المعنى، ويؤول المعنى إلى أنهم آمنوا على خوف من فرعون ومن أشراف قومهم ‏{‏أَن يَفْتِنَهُمْ‏}‏ أي يبتليهم ويعذبهم، وأصل الفتن كما قال الراغب إدخال الذهب النار لتظهر جودته من رداءته واستعمل في إدخال الإنسان النار كما في قوله سبحانه‏:‏

‏{‏يَوْمَ هُمْ عَلَى النار يُفْتَنُونَ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 13‏]‏ ويسمي ما يحصل منه العذاب فتنة ويستعمل في الاختيار وبمعنى البلاء والشدة وهو المراد هنا، و‏{‏ءانٍ‏}‏ وما بعدها في تأويل مصدر وقع بدلاً من فرعون بدل اشتمال أي على خوف من فرعون فتنته، ويجوز أن يكون مفعول ‏{‏خوْفٍ‏}‏ لأنه مصدر منكر كثر إعماله، وقيل‏:‏ إنه مفعول له والأصل لأن يفتنهم فحذف الجار وهو مما يطرد فيه الحذف، ولا يضر في مثل هذا عدم اتحاد فاعل المصدر والمعلل به على أن مذهب بعض الأئمة عدم اشتراط ذلك في جواز النصب وإليه مال الرضى وأيده بما ذكرناه في حواشينا على شرط القطر للمصنف، وإسناد الفعل إلى فرعون خاصة لأنه مدار أمر التعذيب، وفي الكلام استخدام في رأي حيث أريد من فرعون أولاً آله وثانياً هو وحده وأنت تعلم ما فيه‏.‏

‏{‏وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الارض‏}‏ أي لغالب قاهر في أرض مصر، واستعمال العلو بالغلبة والقهر مجاز معروف ‏{‏وَإِنَّهُ لَمِنَ المسرفين‏}‏ أي المتجاوزي الحد في الظلم والفساد بالقتل وسفك الدماء أو في الكبر والعتو حتى ادعى الربوبية واسترق أسباط الأنبياء عليهم السلام، والجملتان اعتراض تذييلي مؤكد لمضمون ما سبق وفيهما من التأكيد ما لا يخفى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏84‏]‏

‏{‏وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آَمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ ‏(‏84‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَالَ مُوسَى‏}‏ لما رأى تخوف المؤمنين ‏{‏ياقوم إِن كُنتُمْ ءامَنْتُمْ بالله‏}‏ أي صدقتم به وبآياته ‏{‏فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ‏}‏ أي اعتمدوا لا على أحد سواه فإنه سبحانه كافيكم كل شر وضر‏.‏

‏{‏إِن كُنْتُم مُّسْلِمِينَ‏}‏ أي مستسلمين لقضاء الله تعالى مخلصين له، وليس هذا من تعليق الحكم بشرطين بل من تعليق شيئين بشرطين لأنه علق وجوب التوكل المفهوم من الأمر وتقديم المتعلق بالإيمان فإنه المقتضى له وعلق نفس التوكل ووجوده بالإسلام والإخلاص لأنه لا يتحقق مع التخليط، ونظير ذلك إن دعاك زيد فأجبه إن قدرت عليه فإن وجوب الإجابة معلق بالدعوة ونفس الدعوة معلقة بالقدرة، وحاصله إن كنتم آمنتم بالله فيجب عليكم التوكل عليه سبحانه فافعلوه واتصفوا به إن كنتم مستسلمين له تعالى‏.‏

وهذا النوع على ما في «الكشف» يفيد مبالغة في ترتب الجزاء على الشرط على نحو إن دخلت الدار فأنت طالق إن كنت زوجتي وجعله بعضهم من باب التعليق بشرطين المقتضى لتقدم الشرط الثاني على الأول في الوجود حتى لو قال‏:‏ إن كلمت زيداً فأنت طالق إن دخلت الدار لم تطلق ما لم تدخل قبل الكلام لأن الشرط الثاني شرط للأول فيلزم تقدمه عليه، وقرره بأن ههنا ثلاثة أشياء‏:‏ الإيمان‏.‏ والتوكل‏.‏ والإسلام، والمراد بالإيمان التصديق وبالتوكل إسناد الأمور إليه عز وجل، وبالإسلام تسليم النفس إليه سبحانه وقطع الأسباب فعلق التوكل بالتصديق بعد تعليقه بالإسلام لأن الجزاء معلق بالشرط الأول وتفسير للجزاء الثاني كأنه قيل‏:‏ إن كنتم مصدقين بالله تعالى وآياته فخصوه سبحانه بإسناد جميع الأمور إليه وذلك لا يتحصل إلا بعد أن تكونوا مخلصين لله تبارك وتعالى مستسلمين بأنفسكم له سبحانه ليس للشيطان فيكم نصيب وإلا فاتركوا أمر التوكل‏.‏

ويعلم منه أن ليس لكل أحد من المؤمنين الخوض في التوكل بل للآحاد منهم وأن مقام التوكل دون مقام التسليم والأكثر على الأول ولعله أدق نظراً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏85‏]‏

‏{‏فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ‏(‏85‏)‏‏}‏

‏{‏فَقَالُواْ‏}‏ مجيبين له عليه السلام من غير تلعثم وبلع ريق في ذلك ‏{‏عَلَى الله تَوَكَّلْنَا‏}‏ لا على غيره سبحانه ويؤخذ من هذا القصر والتعبير بالماضي دون نتوكل أنهم كانوا مؤمنين مخلصين، قيل‏:‏ ولذا أجيب دعاؤهم ‏{‏رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لّلْقَوْمِ الظالمين‏}‏ أي موضع فتنة وعذاب لهم بأن تسلطهم علينا فيعذبونا أو يفتنونا عن ديننا أو يفتنوا بنا ويقولوا‏:‏ لو كان هؤلاء على الحق لما أصيبوا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏86‏]‏

‏{‏وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ‏(‏86‏)‏‏}‏

‏{‏وَنَجّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ القوم الكافرين‏}‏ دعاء بالإنجاء من سوء جوارهم وسوء صنيعهم بعد الإنجاء من ظلمهم، ولذا عبر عنهم بالكفر بعدما وصفوا بالظلم ففيه وضع المظهر موضع المضمر، وجوز أن يراد من القوم الظالمين الملأ الذين تخوفوا منهم ومن القوم الكافرين ما يعمهم وغيرهم، وفي تقديم التوكل على الدعاء وإن كان بياناً لامتثال أمر موسى عليه السلام لهم به تلويح بأن الداعي حقه أن يبني دعاءه على التوكل على الله تعالى فإنه أرجى للإجابة ولا يتوهمن أن التوكل مناف للدعاء لأنه أحد الأسباب للمقصود والتوكل قطع الأسباب لأن المراد بذاك قطع النظر عن الأسباب العادية وقصره على مسببها عز وجل واعتقاد أن الأمر مربوط بمشئته سبحانه فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وقد صرحوا أن الشخص إذا تعاطى الأسباب معتقداً ذلك يعد متوكلاً أيضاً، ومثل التوكل في عدم المنافاة للدعاء على ما تشعر به الآية الاستسلام‏.‏ نعم في قول بعضهم‏:‏ إن الاستسلام من صفات إبراهيم عليه السلام وكان من آثاره ترك الدعاء حين ألقى في النار واكتفاؤه عليه السلام بالعلم المشار إليه بقوله‏:‏ حسبي من سؤالي علمه بحالي ما يشعر بالمنافاة ومن عرف المقامات وأمعن النظر هان عليه أمر الجمع‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏87‏]‏

‏{‏وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآَ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏87‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَوْحَيْنَا إلى موسى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءا‏}‏ ‏{‏ءانٍ‏}‏ مفسرة لأن في الوحي معنى القول، ويحتمل أن تكون مصدرية؛ والتبوؤ اتخاذ المباءة أي المنزل كالتوطن اتخاذ الوطن، والجمهور على تحقيق الهمزة ومنهم من قرأ ‏{‏تبوياً‏}‏ ‏{‏تَبَوَّءا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا‏}‏ فجعلها ياء وهي مبدلة من الهمزة تخفيفاً، والفعل على ما قيل مما يتعدى لواحد فيقال‏:‏ تبوأ زيد كذا لكن إذا أدخلت اللام على الفاعل فقيل‏:‏ تبوأ لزيد كذا تعدى لما كان فاعلاً باللام فيتعدى لاثنين، وخرجت الآية على ذلك فلقومكما أحد المفعولين، وقيل‏:‏ هو متعد لواحد و‏{‏لِقَوْمِكُمَا‏}‏ متعلق بمحذوف وقع حالاً من البيوت، واللام على الوجهين غير زائدة‏.‏ وقال أبو علي‏:‏ هو متعد بنفسه لاثنين واللام زائدة كما في ‏{‏رَدِفَ لَكُم‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 72‏]‏ وفعل وتفعل قد يكونان بمعنى مثل علقتها وتعلقتها، والتقدير بوئا قومكما بيوتاً يسكنون فيها أو يرجعون إليها للعبادة‏.‏ و‏{‏مِصْرَ‏}‏ غير منصرف لأنه مؤنث معرفة ولو صرفته لخفته كما صرفت هنداً لكان جائزاً، والجار متعلق بتبوآ وجوز أن يكون حالاً من ‏{‏بُيُوتًا‏}‏ أو من قومكما أو من ضمير الفاعل في ‏{‏تبوآ‏}‏ أي مصلى، وقيل‏:‏ مساجد متوجهة نحو القبلة يعني الكعبة فإن موسى عليه السلام كان يصلي إليها، وعلى التفسيرين تكون القبلة مجازاً فيما فسرت به بعلاقة اللزوم أو الكلية والجزئية، والاختلاف في المراد هنا ناظر للاختلاف في أن تلك البيوت المتخذة هل للسكنى أو للصلاة فإن كان الأول فالقبلة مجاز عن المصلى وإن كان الثاني فهي مجاز عن المساجد‏.‏

واعترض القول بحمل القبلة على المساجد المتوجهة إلى الكعبة بأن المنصوص عليه في الحديث الصحيح أن اليهود تستقبل الصخرة والنصارى مطلع الشمس ولم يشتهر أن موسى عليه السلام كان يستقبل الكعبة في صلاته فالقول به غريب، وأغرب منه ما قاله العلائي‏:‏ من أن الأنبياء عليهم السلام كانت قبلتهم كلهم الكعبة، قيل‏:‏ وجعل البيوت مصلى ينافيه ما في الحديث «جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً» من أن الأمم السالفة كانوا لا يصلون إلا في كنائسهم، وأجيب عن هذا بأن محله إذا لم يضطروا فإذا اضطروا جازت لهم الصلاة في بيوتهم كما رخص لنا صلاة الخوف، فإن فرعون لعنه الله تعالى خرب مساجدهم ومنعهم من الصلاة فأوحى إليهم أن صلوا في بيوتكم كما روي عن ابن عباس‏.‏ وابن جبير، وقد يقال‏:‏ إنه لا منافاة أصلاً بناءً على أن المراد تعيين البيوت للصلاة وعدم صلاحة الصلاة في غيرها فيكون حكمها إذ ذاك حكم الكنائس اليوم وما هو من الخصائص صحة الصلاة في أي مكان من الأرض وعدم تعين موضع منها لذلك فلا حاجة إلى ما يقال‏:‏ من أن اعتبار جعل الأرض كلها مسجداً خصوصية بالنظر إلى ما استقرت عليه شريعة موسى عليه السلام من تعين الصلاة في الكنائس وعدم جوازها في أي مكان أراده المصلى من الأرض، وما تقدم من استقبال من تعين الصلاة في الكنائس وعدم جوازها في أي مكان أراده المصلي من الأرض، وما تقدم من استقبال اليهود الصخرة فالمشهور أنه كان في بيت المقدس وأما قبل بعد نزول التوراة فكانوا يستقبلون التابوت وكان يوضع في قبة موسى عليه السلام، على أنه قد قيل‏:‏ إن الاستقبال في بيت المقدس كان للتابوت أيضاً وكانوا يضعونه على الصخرة فيكون استقباله استقبالها، وأما استقبالهم في مصر فيحتمل أنه كان للكعبة كما روي عن الحسن وما في الحديث محمول على آخر أحوالهم، ويحتمل أنه كان للصخرة حسبما هو اليوم ويحتمل غير ذلك والله تعالى أعلم بحقيقة الحال، وقيل‏:‏ معنى ‏{‏بِتَابِعٍ قِبْلَةَ‏}‏ متقابلة ورواه ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أي اجعلوا بيويتكم يقابل بعضها بعضاً ‏{‏وَإِذْ أَخَذْنَا‏}‏ فيها، قيل‏:‏ أمروا بذلك في أول أمرهم لئلا يظهر عليهم الكفرة فيؤذونهم ويفتنونهم في دينهم، وهو مبني على أن المراد بالبيوت المساكن أما لو أريد بها المساجد فلا يصح كما لا يخفى، ولعل التوجيه على ذلك هو أنهم أمروا بالصلاة ليستعينوا ببركتها على مقصودهم فقد قال سبحانه‏:‏

‏{‏واستعينوا بالصبر والصلاة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 45‏]‏ وهي في المساجد أفضل فتكون أرجى للنفع ‏{‏وَبَشّرِ المؤمنين‏}‏ بحصول مقصودهم، وقيل‏:‏ بالنصرة في الدنيا إجابة لدعوتهم والجنة في العقبى، وإنما ثنى الضمير أولاً لأن التبوأ للقوم واتخاذ المعابد مما يتولاه رؤساء القوم بتشاور، ثم جمع ثانياً لأن جعل البيوت مساجد والصلاة فيها مما يفعله كل أحد مع أن في إدخال موسى وهارون عليهما السلام مع القوم في الأمرين المذكورين ترغيباً لهم في الامتثال، ثم وحد ثالثاً لأن بشارة الأمة وظيفة صاحب الشريعة وهي من الأعظم أسر وأوقع في النفس، ووضع المؤمنين موضع ضمير القوم لمدحهم بالإيمان وللإشعار بأنه المدار في التبشير‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏88‏]‏

‏{‏وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آَتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ‏(‏88‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَالَ موسى رَبَّنَا إِنَّكَ ءاتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلاَهُ زِينَةً‏}‏ أي ما يتزين به من اللباس والمراكب ونحوها وتستعمل مصدراً ‏{‏وَأَمْوَالاً‏}‏ أنواعاً كثيرة من المال كما يشعر به الجمع والتنوين، وذكر ذلك بعد الزينة من ذكر العام بعد الخاص للشمول، وقد يحمل على ما عداه بقرينة المقابلة، وفسر بعضهم الزينة بالجمال وصحة البدن وطول القامة ونحوه ‏{‏وَقَالَ موسى رَبَّنَا إِنَّكَ ءاتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلاَهُ‏}‏ أي لكي يضلوا عنها وهو تعليل للإيتاء السابق، والكلام إخبار من موصى عليه السلام بأن الله تعالى إنما أمدهم بالزينة والأموال استدراجاً ليزدادوا إثماً وضلالة كما أخبر سبحانه عن أمثالهم بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 178‏]‏ وإلى كون اللام للتعليل ذهب الفراء والظاهر أنه حقيقة فيكون ذلك الضلال مراد الله تعالى، ولا يلزم ما قاله المعتزلة من أنه إذا كان مراداً يلزم أن يكونوا مطيعين به بناءً على أن الإرادة أمر أو مستلزم له لما أنه قد تبين بطلان هذا المبنى في الكلام، وقدر بعضهم حذراً من ذلك لئلا يضلوا كما قدر في ‏{‏شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 172‏]‏ شهدنا أن لا تقولوا ولا حاجة إليه، وقال الأخفش‏:‏ اللام للعاقبة فيكون ذلك إخباراً منه عليه السلام لممارسته لهم وتفرسه بهم أو لعلمهم بالوحي على ما قيل بأن عاقبة ذلك الإيتاء الضلال‏.‏

والفرق بين التعليل المجازي وهذا إن قلنا بأنه معنى مجازي أيضاً أن في التعليل ذكر ما هو سبب لكن لم يكن إيتاؤه لكونه سبباً وفي لام العاقبة لم يذكر سبب أصلاً وهي كاستعارة أحد الضدين للآخر، وقال ابن الأنباري‏:‏ إنها للدعاء ولا مغمز على موسى عليه السلام في الدعاء عليهم بالضلال إما لأنه عليه السلام علم بالممارسة أو نحوها أنه كائن لا محالة فدعا به وحاصله أنه دعاء بما لا يكون إلا ذلك فهو تصريح بما جرى قضاء الله تعالى به، ونحوه لعن الله تعالى الشيطان وإما لأنه ليس بدعاء حقيقة، وليس النظر إلى تنجيز المسؤول وعدمه بل النظر إلى وصفهم بالعتو وإبلاء عذره عليه السلام في الدعوة فهو كناية إيمائية على هذا، وما قيل‏:‏ هذا شهادة بسوء حالهم بطريق الكناية في الكناية لأن الضلال رديف الإضلال وهو منع اللطف فكني بالضلال عن الإضلال والإضلال رديف كونهم كالمطبوع عليهم فكان هذا كشفاً وبياناً لحالهم بطريق الكناية فهو على ما فيه شيء عنه غني لأن الطبع مصرح به بعد بل النظر ههنا إلى الزبدة والخلاصة من هذه المطالب كلها، ويشعر كلام الزمخشري باختيار كونها للدعاء، وفي الانتصاف أنه اعتزال أدق من دبيب النمل يكاد الاطلاع عليه يكون كشفاً، والظاهر أنها للتعليل، وقال صاحب الفرائد‏:‏ لولا التعليل لم يتجه قوله‏:‏ ‏{‏وَقَالَ موسى رَبَّنَا إِنَّكَ ءاتَيْتَ‏}‏ ولم ينتظم‏.‏

وأورد عليه أيضاً أنه ينافي غرض البعثة وهو الدعوة إلى الإيمان والهدى، ولا يخفى أن دفع هذا يعلم مما قدمنا آنفاً‏.‏ وأما وجه انتظام الكلام فهو كما قال غير واحد‏:‏ إن موسى عليه السلام ذكر قوله‏:‏ ‏{‏وَقَالَ موسى‏}‏ الخ تمهيداً للتخلص إلى الدعاء عليهم أي إنك أوليتهم هذه النعمة ليعبدوك ويشكروك فما زادهم ذلك إلا طغياناً وكفراً وإذا كانت الحال هذه فليضلوا عن سبيلك ولو دعا ابتداءً لم يحسن إذ ربما لم يعذر فقدم الشكاية منهم والنعي بسوء صنيعهم ليتسلق منه إلى الدعاء مع مراعاة تلازم الكلام من إيراد الأدعية منسوقة نسقاً واحداً وعدم الاحتياج إلى الاعتذار عن تكرير النداء كما احتاج القول بالتعليل إلى الاعتذار عنه بأنه للتأكيد وللإشارة إلى أن المقصود عرض ضلالهم وكفرانهم تقدمة للدعاء عليهم بعد‏.‏ وادعى الطيبى أنه لا مجال للقول بالاعتراض لأنه إنما يحسن موقعه إذا التذت النفس بسماعه، ولذا عيب قول النابغة‏:‏ لعل زياداً لا أبا لك غافل *** وفي كلامه ميل إلى القول بأن اللام للدعاء وهو لدى المنصف خلاف الظاهر، وما ذكروه له لا يفيده ظهوراً‏.‏

وقرىء ‏{‏لِيُضِلُّواْ‏}‏ بضم الياء وفتحها ‏{‏رَبَّنَا اطمس على أموالهم‏}‏ أي أهلكها كما قال مجاهد، فالطمس بمعنى الإهلاك، وفعله من باب ضرب ودخل، ويشهد له قراءة ‏{‏اطمس‏}‏ بضم الميم، ويتعدى ولا يتعدى، وجاء بمعنى محو الأثر والتغيير وبهذا فسره أكثر المفسرين قالوا‏:‏ المعنى ربنا غيرها عن جهة نفعها إلى جهة لا ينتفع بها‏.‏

وأنت تعلم أن تغييرها عن جهة نفعها إهلاك لها أيضاً فلا ينافي ما أخرجه ابن أبي حاتم‏.‏ وأبو الشيخ عن الضحاك أنه بعد هذا الدعاء صارت دراهمهم ودنانيرهم ونحاسهم وحديدهم حجارة منقوشة‏.‏ وعن محمد القرظي قال‏:‏ سألني عمر بن عبد العزيز عن هذه الآية فأخبرته أن الله تعالى طمس على أموال فرعون وآل فرعون حتى صارت حجارة فقال عمر‏:‏ مكانك حتى آتيك فدعا بكيس مختوم ففكه فإذا فيه البيضة مشقوقة وهي حجارة وكذا الدراهم والدنانير وأشباه ذلك‏.‏ وفي رواية عنه أنه صار سكرهم حجارة وأن الرجل بينما هو مع أهله إذ صارا حجرين وبينما المرأة قائمة تخبز إذ صارت كذلك، وهذا مما لا يكاد يصح أصلاً وليس في الآية ما يشير إليه بوجه، وعندي أن أخبار تغيير أموالهم إلى الحجارة لا تخلو عن وهن فلا يعول عليها، ولعل الأولى أن يراد من طمسها إتلافها منهم على أتم وجه، والمراد بالأموال ما يشمل الزينة من الملابس والمراكب وغيرها ‏{‏واشدد على قُلُوبِهِمْ‏}‏ أي أجعلها قاسية واطبع عليها حتى لا تنشرح للإيمان كما هو قضية شأنهم ‏{‏فَلاَ يُؤْمِنُواْ‏}‏ جواب للدعاء أعني ‏{‏اشدد‏}‏ دون ‏{‏اطمس‏}‏ فهو منصوب، ويحتمل أن يكون دعاء بلفظ النهي نحو إلهي لا تعذبني فهو مجزوم، وجوز أن يكون عطفاً على ‏{‏لِيُضِلُّواْ‏}‏ وما بينهما دعاء معترض فهو حينئذٍ منصوب أو مجزوم حسبما علمت من الخلاف في اللام ‏{‏حتى يَرَوُاْ العذاب الاليم‏}‏ أي يعاينوه ويوقنوا به بحيث لا ينفعهم ذلك إذ ذاك، والمراد به جنس العذاب الأليم‏.‏

وأخرج غير واحد عن ابن عباس تفسيره بالغرق‏.‏

واستدل بعضهم بالآية على أن الدعاء على شخص بالكفر لا يعد كفراً إذا لم يكن على وجه الاستيجاز والاستحسان للكفر بل كان على وجه التمني لينتقم الله تعالى من ذلك الشخص أشد انتقام، وإلى هذا ذهب شيخ الإسلام خواهر زاده، فقولهم‏:‏ الرضا بكفر الغير كفر ليس على إطلاقه عنده بل هو مقيد بما إذا كان على وجه الاستحسان، لكن قال صاحب الذخيرة‏:‏ قد عثرنا على رواية عن أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه أن الرضا بكفر الغير كفر من غير تفصيل، والمنقول عن علم الهدى أبي منصور الماتريدي التفصيل ففي المسألة اختلاف، قيل‏:‏ والمعول عليه أن الرضا بالكفر من حيث أنه كفر كفر وأن الرضا به لا من هذه الحيثية بل من حيثية كونه سبباً للعذاب الأليم أو كونه أثراً من آثار قضاء الله تعالى وقدره مثلاً ليس بكفر وبهذا يندفع التنافي بين قولهم‏:‏ الرضا بالكفر كفر، وقولهم‏:‏ الرضا بالقضاء واجب بناءً على حمل القضاء فيه على المقضي، وعلى هذا لا يتأتى ما قيل‏:‏ إن رضا العبد بكفر نفسه كفر بلا شبهة على إطلاقه بل يجري فيه التفصيل السابق في الرضا بكفر الغير أيضاً، ومن هذا التحقيق يعلم ما في قولهم‏:‏ إن من جاءه كافر ليسلم فقال له‏:‏ اصبر حتى أتوضأ أو أخره يكفر لرضاه بكفره في زمان من النظر، ويؤيده ما في الحديث الصحيح في فتح مكة أن ابن أبي سرح أتى به عثمان رضي الله تعالى عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ يا رسول الله بايعه فكف صلى الله عليه وسلم يده عن بيعته ونظر إليه ثلاث مرات كل ذلك يأبى أن يبايعه فبايعه بعد الثلاث ثم أقبل صلى الله عليه وسلم على أصحابه فقال‏:‏ أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حيث رآني كففت يدي عن بيعته فيقتله‏؟‏ قالوا‏:‏ وما يدرينا يا رسول الله ما في نفسك ألا أومأت إلينا بعينك فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ إنه لا ينبغي لنبي أن يكون له خائنة أعين، وقد أخرجه ابن أبي شيبة، وأبو داود‏.‏ والنسائي‏.‏ وابن مردويه عن سعد بن أبي وقاص وهو معروف في السير فإنه ظاهر في أن التوقف مطلقاً ليس كما قالوه كفراً فليتأمل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏89‏]‏

‏{‏قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏89‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا‏}‏ هو خطاب لموسى وهارون عليهما السلام، وظاهره أن هارون عليه السلام دعا بمثل ما دعا موسى عليه السلام حقيقة لكن اكتفى بنقل دعاء موسى عليه السلام لكونه الرسول بالاستقلال عن نقل دعائه وأشرك بالبشارة إظهاراً لشرفه عليه السلام، ويحتمل أنه لم يدع حقيقة لكن أضيفت الدعوة إليه أيضاً بناءً على أن دعوة موسى في حكم دعوته لمكان كونه تابعاً ووزيراً له، والذي تضافرت به الآثار أنه عليه السلام كان يؤمن لدعاء أخيه والتأمين دعاء، فإن معنى آمين استجب وليس اسماً من أسمائه تعالى كما يروونه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، قيل‏:‏ ولكونه دعاء استحب الحنفية الإسرار به، وفيه نظر لأن الظاهر أن مدار استحباب الإسرار والجهر ليس كونه دعاءً فإن الشافعية استحبوا الجهر به مع أن المشهور عنهم أنهم قائلون أيضاً بكونه دعاء، وظاهر كلام بعض المحققين أن إضافة الرب إلى ضمير المتكلم مع الغير في المواقع الثلاثة تشعر بأنه عليه السلام كان يؤمن لدعاء موسى عليه السلام ولا يخفى ما في ذلك الإشعار من الخفاء‏.‏ وقرىء ‏{‏دعواتكما‏}‏ بالجمع ووجهه ظاهر ‏{‏دَّعْوَتُكُمَا فاستقيما‏}‏ فامضيا لأمري واثبتا على ما أنتم عليه من الدعوة وإلزام الحجة ولا تستعجلاً فإن ما طلبتماه كائن في وقته لا محالة‏.‏ أخرج ابن المنذر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال‏:‏ يزعمون أن فرعون مكث بعد هذه الدعوة أربعين سنة، وأخرج ابن جرير عن ابن جريج مثله، وأخرج الترمذي عن مجاهد أن الدعوة أجيبت بعد أربعين سنة ولم يذكر الزعم ‏{‏وَلاَ تَتَّبِعَانّ سَبِيلَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ بعادات الله تعالى في تعليق الأمور بالحكم والمصالح أو سبيل الجهلة في عدم الوثوق بوعد الله سبحانه، والنهي لا يقتضي صحة وقوع المنهي عنه فقد كثر نهي الشخص عما يستحيل وقوعه منه، ولعل الغرض منه هنا مجرد تأكيد أمر الوعد وإفادة أن في تأخير إنجازه حكماً إلهية‏.‏ وعن ابن عامر أنه قرأ ‏{‏وَلاَ تَتَّبِعَانّ‏}‏ بالنون الخفيفة المكسورة لالتقاء الساكنين، ووجه ذلك ابن الحاجب بأن ‏{‏لا‏}‏ نافية والنون علامة الرفع، والجملة إما في موضع الحال من الضمير المرفوع في استقيما كأنه قيل‏:‏ استقيما غير متبعين، والجملة المضارعية المنفية بلا الواقعة حالاً يجوز اقترانها بالواو وعدمه خلافاً لمن زعم وجوب عدم الاقتران بالواو إلا أن يقدر مبتدأ، وإما معطوفة على الجملة الطلبية التي قبلها وهي وإن كانت خبرية لفظاً إلا أنها طلبية معنى لأن المراد منها النهي كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تُؤْمِنُونَ بالله وَرَسُولِهِ‏}‏ ‏[‏الصف‏:‏ 11‏]‏ و‏{‏لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ الله‏}‏

‏[‏البقرة‏:‏ 83‏]‏ والنهي المخرج بصورة الخبر أبلغ من النهي المخرج بصورته، ويجوز أن تعتبر الجملة مستأنفة للإخبار بأنهما لا يتبعان سبيل الجاهلين، ومن الناس من جعل ‏{‏لا‏}‏ في قراءة العامة نافية أيضاً وهو ضعيف لأن النفي لا يؤكد على الصحيح، وقيل‏:‏ ‏{‏لا‏}‏ ناهية والنون نون التوكيد الخفيفة كسرت لالتقاء الساكنين وهو تخريج لين فإن الكسائي وسيبويه لا يجيزانه لأنهما يمنعان وقوع الخفيفة بعد الألف سواء كانت ألف التثنية أو الألف الفاصلة بين نون الإناث ونون التوكيد نحو هل تضربنان يا نسوة، وأيضاً النون الخفيفة إذا لقيها ساكن لزم حذفها عند الجمهور ولا يجوز تحريكها، لكن يونس‏.‏ والفراء أجازا ذلك وفيه عنهما روايتان إبقاؤها ساكنة لأن الألف لخفتها بمنزلة الفتحة وكسرها على أصل التقاء الساكنين وعلى هذا يتم ذاك التخريج‏.‏

وقيل‏:‏ إن هذه النون هي نون التوكيد الثقيلة إلا أنها خففت وهو كما ترى، وعنه أيضاً ‏{‏وَلاَ تَتَّبِعَانّ‏}‏ بتخفيف التاء الثانية وسكونها وبالنون المشددة من تبع الثلاثي، وأيضاً ‏{‏وَلاَ تَتَّبِعَانّ‏}‏ وهي كالأولى إلا أن النون ساكنة على إحدى الروايتين عمن تقدم في تسكين النون الخفيفة بعد الألف على الأصل واغتفار التقاء الساكنين إذا كان الأول ألفاً كما في محياي‏.‏ ثم اعلم أنه اشتهر في تعليل كسر النون في قراءة العامة بأنه لالتقاء الساكنين وظاهره أنه بذلك زال التقاء الساكنين وليس كذلك إذ الساكنان هما الألف والنون الأولى ولا شيء منهما بمتحرك وإنما المتحرك النون الثانية، ومن هنا قال بعض محققي النحاة‏:‏ إن أصل التحريك ليتأتى الإدغام وكونه بالكسر تشبيهاً بنون التثنية، والتقاء الساكنين أعني الألف والنون الأولى غير مضر لما قالوا من جوازه إذا كان الأول حرف مد والثاني مدغماً في مثله كما في دابة لارتفاع اللسان بهما معاً حينئذٍ وقد حقق ذلك في موضعه فليراجع هذا والله تعالى أعلم‏.‏

ومن باب الإشارة في الآيات‏:‏ ‏{‏وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصم وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 42‏]‏ أشار سبحانه إلى أنهم يستمعون لكن حكمهم حكم الأصم في عدم الانتفاع وذلك لعدم استعدادهم حقيقة أو حكماً بأن كان ولكن حجب نوره رسوخ الهيآت المظلمة؛ وكذا يقال فيما بعد، ثم إنه تعالى رفع ما يتوهم من أن كونهم في تلك الحالة ظلم منه سبحانه لهم بقوله جل شأنه‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ الناس شَيْئًا‏}‏ بسلب حواسهم وعقولهم مثلاً ‏{‏ولكن الناس أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 44‏]‏ حيث طلب استعدادهم الغير المجعول ذلك ‏{‏وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مّنَ النهار‏}‏ لذهولهم بتكاثف ظلمات المعاصي على قلوبهم ‏{‏يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ‏}‏ بحكم سابقة الصحبة وداعية الهوى اللازمة للجنسية الأصلية، وهذا التعارف قد يبقى إذا اتحذوا في الوجهة واتفقوا في المقصد وقد لا يبقى وذلك إذا اختلفت الأهواء وتباينت الآراء فحينئذٍ تتفاوت الهيئات المستفادة من لواحق النشأة فيقع التناكر وعوارض العادة

‏{‏قَدْ خَسِرَ الذين كَذَّبُواْ بِلِقَاء الله وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 45‏]‏ لما ينتفعون به ‏{‏وَلِكُلّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ‏}‏ من جنسهم ليتمكنوا من الاستفاضة منه ‏{‏فَإِذَا جَاء رَسُولُهُمْ قُضِىَ بَيْنَهُمْ‏}‏ بإنجاء من اهتدى به وإثابته وإهلاك من أعرض عنه وتعذيبه لظهور أسباب ذلك بوجوده ‏{‏وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 47‏]‏ فيعاملوا بخلاف ما يستحقون ‏{‏وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صادقين‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 48‏]‏ إنكار للقيامة لاحتجابهم بما هم فيه من الكثافة ‏{‏قُل لا أَمْلِكُ لِنَفْسِى نَفْعًا وَلاَ ضَرّا إِلاَّ مَا شَاء الله‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 49‏]‏ سلب لاستقلاله في التأثير وبيان لأنه لا يملك إلا ما أذن الله تعالى فيه، وهذا نوع من توحيد الأفعال وفيه إرشاد لهم بأنه لا يملك استعجال ما وعدهم به ‏{‏تُرْجَعُونَ ياأيها الناس قَدْ جَاءتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مّن رَّبّكُمْ‏}‏ أي تزكية لنفوسكم بالوعد والوعيد والزجر عن الذنوب المتسببة للعقاب والتحريض على الطاعة الموجبة بفضل الله تعالى للثواب ‏{‏وَشِفَاء لِمَا فِى الصدور‏}‏ أي دواء للقلوب من أمراضها التي هي أشد من أمراض الأبدان كالشك والنفاق والحسد والحقد وأمثال ذلك بتعليم الحقائق والحكم الموجبة لليقين والتصفية والتهيء لتجليات الصفات الحقة ‏{‏وهدى‏}‏ لأرواحكم إلى الشهود الذاتي ‏{‏وَرَحْمَةً‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 57‏]‏ بإفاضة الكمالات اللائقة بكل مقام من المقامات الثلاثة بعد حصول الاستعداد في مقام النفس بالموعظة ومقام القلب بالتصفية ومقام الروح بالهداية للمؤمنين بالتصديق أولاً ثم باليقين ثانياً ثم بالعيان ثالثاً‏.‏

وذكر بعضهم الموعظة للمريدين والشفاء للمحبين والهدى للعارفين والرحمة للمستأنسين والكل مؤمنون إلا أن مراتب الإيمان متفاوتة والخطاب في الآية لهم وفيها إقامة الظاهر مقام المضمر، ويقال‏:‏ إنه سبحانه بدأ بالموعظة لمريض حبه لأنها معجون لإسهال شهواته فإذا تطهر عن ذلك يسقيه شراب ألطافه فيكون ذلك شفاء له مما به فإذا شفي يغذيه بهدايته إلى نفسه فإذا كمل بصحبته يطهره بمياه رحمته من وسخ المرض ودرن الامتحان ‏{‏قُلْ بِفَضْلِ الله‏}‏ بتوفيقه للقبول في المقامتت ‏{‏وَبِرَحْمَتِهِ‏}‏ بالمواهب الخلقية والعملية والكشفية فيها ‏{‏فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ‏}‏ لا بالأمور الفانية القليلة المقدار الدنية القدر ‏{‏هُوَ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 58‏]‏ من الخسائس والمحقرات، وفسر بعضهم الفضل بانكشاف صباح الأزل لعيون أرواح المريدين وزيادة وضوحه في لحظة حتى تطلع شموس الصفات‏.‏ وأقمار الذات فيطيرون في أنوار ذلك بأجنحة الجذبات إلى حيث شاء الله تعالى والرحمة بتتابع مواجيد الغيوب للقلوب بنعت التفريد بلا انقطاع، ومن هنا قال ضرغام أجمة التصوف أبو بكر الشبلي قدس سره‏:‏ وقتي سرمد وبحري بلا شاطىء؛ وقيل‏:‏ فضله الوصال ورحمته الوقاية عن الانفصال، وقيل‏:‏ فضله إلقاء نيران المحبة في قلوب المريدين ورحمته جذبه أرواح المشتاقين، وقيل‏:‏ فضله سبحانه على العارفين كشف الذات وعلى المحبين كشف الصفات وعلى المريدين كشف أنوار الآيات ورحمته جل شأنه على العارفين العناية وعلى المحبين الكفاية وعلى المريدين الرعاية‏.‏

وقال الجنيد‏:‏ فضل الله تعالى في الابتداء ورحمته في الانتهاء وهو مناسب لما قلنا، وقال الكتاني‏:‏ فضل الله تعالى النعم الظاهرة ورحمته النعم الباطنة وقيل غير ذلك، ‏{‏قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا أَنزَلَ الله لَكُمْ‏}‏ أي أخبروني ما أنزل الله سبحانه من رزق معنوي كالمعارف الحقانية وكالآداب الشرعية ‏{‏فَجَعَلْتُمْ مّنْهُ حَرَامًا‏}‏ كالقسم الأول حيث أنكرتموه على أهله ورميتموه بالزندقة ‏{‏وَحَلاَلاً‏}‏ كالقسم الثاني حيث قبلتموه ‏{‏قُلِ الله أَذِنَ لَكُمْ‏}‏ في الحكم بالتحليل والتحريم ‏{‏أَمْ عَلَى الله تَفْتَرُونَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 59‏]‏ في ذلك، ثم أنه سبحانه أوعد المفترين بقوله عز من قائل‏:‏ ‏{‏وَمَا ظَنُّ الذين يَفْتَرُونَ‏}‏ الخ، ففي الآية إشارة إلى سوء حال المنكرين على من تحلى بالمعارف الإلهية، ولعل منشأ ذلك زعمهم انحصار العلم فيما عندهم ولم يعلموا أن وراء علومهم علوماً لا تحصى يمن الله تعالى بها على من يشاء، وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقُل رَّبّ زِدْنِى عِلْماً‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 114‏]‏ إشارة إلى ذلك فما أولاهم بأن يقال لهم‏:‏ ‏{‏مَا أُوتِيتُمْ مّن العلم إِلاَّ قَلِيلاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 85‏]‏ ومن العجيب أنهم إذا سمعوا شيئاً من أهل الله تعالى مخالفاً لما عليه مجتهدوهم ردوه وقالوا‏:‏ زيغ وضلال واعتمدوا في ذلك على مجرد تلك المخالفة ظناً منهم أن الحق منحصر فيما جاء به أحد أولئك المجتهدين مع أن الاختلاف لم يزل قائماً بينهم على ساق‏.‏

على أنه قد يقال لهم‏:‏ ما يدريكم أن هذا القائل الذي سمعتم منه ما سمعتم وأنكرتموه أنه مجتهد أيضاً كسائر مجتهديكم‏؟‏ فإن قالوا‏:‏ إن للمجتهد شروطاً معلومة وهي غير موجودة فيه قلنا‏:‏ هذه الشروط التي وضعت للمجتهد في دين الله تعالى هل هي منقولة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صريحاً أو صنعتموها أنتم من تلقاء أنفسكم أو صنعها المجتهد‏؟‏ فإن كانت منقولة عن الرسول عليه الصلاة والسلام فأتوا بها واتلوها وصححوا نقلها إن كنتم صادقين وهيهات ذاك، وإن كان الواضع لها أنتم وأنتم أجهل من ابن يوم فهي رد عليكم ولا حباً ولا كرامة على أن في اعتبارها أخذاً بكلام من ليس مجتهداً وأنتم لا تجوزونه، وإن كان الواضع لها المجتهد فإثبات كونه مجتهداً متوقف على اعتبار تلك الشروط واعتبار تلك الشروط متوقف على إثبات كونه مجتهداً وهل هذا إلا دور وهو محال لو تعقلونه، وأيضاً لم لا يجوز أن تكون تلك الشروط شروطاً للمجتهد النقلي وهناك مجتهد آخر شرطه تصفية النفس وتزكيتها وتخلقها بالخلق الرباني وتهيؤها واستعدادها لقبول العلم من الله تعالى‏؟‏ وأي مانع من أن يخلق الله تعالى العلم فيمن صفت نفسه وتهيأت بالفقر واللجأ إلى الله تعالى وصدق عزمه في الأخذ ولم يتكل على حوله وقوته كما يخلقه فيمن استوفى شروط الاجتهاد عندكم فاجتهد وصرف فكره ونظره‏؟‏ والقول بأنه سبحانه إنما يخلق العلم في هذا دون ذاك حجر على الله تعالى وخروج عن الإنصاف كما لا يخفى، فلا ينبغي للمصنف العارف بأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء من عباده إلا أن يسلم لمن ظهرت فيه آثار التصفية والتهىء وسطعت عليه أنوار التخلق بالخلق الرباني ما أتى به ولو لم يأت به مجتهد ما لم يخالف ما علم مجيئه من الدين بالضرورة، ويأبى الله تعالى أن يأتي ذلك بمثل ما ذكر‏.‏

لكن ذكر مولانا الإمام الرباني ومجدد الألف الثاني قدس سره في بعض مكتوباته الفارسية أنه لا يجوز تقليد أهل الكشف في كشفهم لأن الكشف لا يكون حجة على الغير وملزماً له، وقد يقال‏:‏ ليس في هذا أكثر من منع تقليد أهل الكشف، ومحل النزاع الإنكار عليهم ورميهم والعياذ بالله تعالى بالزندقة وليس في الكلام أدنى رائحة منه كما لا يخفى ‏{‏إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 342‏]‏ بصنفي العلمين وإفاضتهما بعد تهيئة الاستعداد لقبولهما ‏{‏ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 60‏]‏ ذلك ولا يعرفون قدره فيمنعون عن الزيادة ‏{‏وَمَا تَكُونُ فِى شَأْنٍ وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْءانٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فيه‏}‏ إخبار منه تعالى بعظيم اطلاعه سبحانه على الخواطر وما يجري في الضمائر فلا يخفى عليه جل شأنه خاطر ولا ضمير ‏{‏أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللطيف الخبير‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 14‏]‏ ثم أخبر جل وعلا عن سلطان إحاطته على كل ذرة من العرش إلى ما تحت الثرى بقوله تبارك اسمه‏:‏ ‏{‏وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبّكَ مِن مّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الارض وَلاَ فِى السماء‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 61‏]‏ أي إن علمه سبحانه محيط بما في العالم السفلي والعلوي فكل ذرة من ذراته داخلة في حيطة علمه كيف لا وكلها قائمة به جل شأنه ينظر إلى كل في كل آن نظر الحفظ والرعاية ولولا ذلك لهلكت الذرات واضمحلت سائر الموجودات ‏{‏أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء الله لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ‏}‏ إذ لم يبق منهم بقية يخاف بسببها من حرمان ‏{‏وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 62‏]‏ لامتناع فوات شيء من الكمالات واللذات منهم ‏{‏الذين كَفَرُواْ‏}‏ الإيمان الحقيقي ‏{‏وَكَانُواْ يَتَّقُونَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 63‏]‏ بقاياهم وظهور تلوناتهم ‏{‏لَهُمُ البشرى فِي الحياة الدنيا‏}‏ بوجود الاستقامة والأخلاق المبشرة بجنة النفوس ‏{‏وَفِي الاخرة‏}‏ بظهور أنوار الصفات والحقائق عليهم المبشرة بجنة القلوب؛ والظاهر أن الموصول بيان للأولياء، فالولي هو المؤمن المتقي على الكمال ولهم في تعريفه عبارات شتى تقدم بعضها‏.‏

وفي الفتوحات‏:‏ هو الذي تولاه الله تعالى بنصرته في مقام مجاهدته الأعداء الأربعة الهوى والنفس والشيطان والدنيا، وفيها تقسيم الأولياء إلى عدة أقسام منها الأقطاب والأوتاد والإبدال والنقباء والنخباء وقد ورد ذلك مرفوعاً وموقوفاً من حديث عمر بن الخطاب‏.‏

وعلي بن أبي طالب‏.‏ وأنس‏.‏ وحذيفة بن اليمان‏.‏ وعبادة بن الصامت‏.‏ وابن عباس‏.‏ وعبد الله بن عمر‏.‏ وابن مسعود‏.‏ وعوف بن مالك‏.‏ ومعاذ بن جبل‏.‏ وواثلة بن الأسقع‏.‏ وأبي سعيد الخدري‏.‏ وأبي هريرة‏.‏ وأبي الدرداء‏.‏ وأم سلمة، ومن مرسل الحسن‏.‏ وعطاء‏.‏ وبكر بن خنيس، ومن الآثار عن التابعين ومن بعدهم ما لا يحصى‏.‏ وقد ذكر ذلك الجلال السيوطي في رسالة مستقلة له وشيد أركانه، وأنكره كما قدمنا بعضهم والحق مع المثبتين، وأنا والحمد لله تعالى منهم وإن كنت لم أشيد قبل أركان ذلك، والأئمة والحواريون والرجبيون والختم والملامية والفقراء وسقيط الرفرف ابن ساقط العرش والأمناء والمحدثون إلى غير ذلك، وعد الشيخ الأكبر قدس سره منهم الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والبيان الذي في الآية صادق عليهم عليهم السلام على أتم وجه، ونسب إليه رضي الله تعالى عنه القول بتفضيل الولي على النبي والرسول وخاض فيه كثير من المنكرين حتى كفروه وحاشاه بسبب ذلك، وقد صرح في غير موضع من فتوحاته وكذا من سائر تأليفاته بما ينافي هذا القول حسبما فهمه المنكرون، وقد ذكر في كتاب القربة أنه ينبغي لمن سمع لفظة من عارف متحقق مبهمة كأن يقول الولاية هي النبوة الكبرى أو الولي العارف مرتبته فوق مرتبة الرسول أن يتحقق المراد منها ولا يبادر بالطعن، ثم ذكر في بيان ما ذكر ما نصه‏:‏ اعلم أنه لا اعتبار للشخص من حيث ما هو إنسان فلا فضل ولا شرف في الجنس بالحكم الذاتي وإنما يقع التفاضل بالمراتب، فالأنبياء صلوات الله تعالى عليهم ما فضلوا الخلق إلا بها، فالنبي صلى الله عليه وسلم له مرتبة الولاية والمعرفة والرسالة ومرتبة الولاية والمعرفة دائمة الوجود ومرتبة الرسالة منقطعة فإنها تنقطع بالتبليغ والفضل للدائم الباقي، والولي العارف مقيم عنده سبحانه والرسول خارج وحالة الإقامة أعلى من حالة الخروج، فهو صلى الله عليه وسلم من حيثية كونه ولياً وعارفاً أعلى وأشرف من حيثية كونه رسولاً وهو صلى الله عليه وسلم الشخص بعينه واختلفت مراتبه لا أن الولي منا أرفع من الرسول نعوذ بالله تعالى من الخذلان، فعلى هذا الحد يقول تلك الكلمة أصحاب الكشف والوجود إذ لا اعتبار عندنا إلا للمقامات ولا نتكلم إلا فيها لا في الأشخاص، فإن الكلام في الأشخاص قد يكون بعض الأوقات غيبة، والكلام على المقامات والأحوال من صفات الرجال، ولنا في كل حظ شرب معلوم ورزق مقسوم انتهى، وهو صريح في أنه قدس سره لا يقول هو ولا غيره من الطائفة بأن الولي أفضل من النبي حسبما ينسب إليه، وقد نقل الشعراني عنه أنه قال‏:‏ فتح لي قدر خرم إبرة من مقام النبوة تجلياً لا دخولاً فكدت أحترق، فينبغي تأويل جميع ما يوهم القول بذلك كإخباره في كتابه التجليات وغيره باجتماعه ببعض الأنبياء عليهم السلام وإفادته لهم من العلم ما ليس عندهم‏.‏

وكقول الشيخ عبد القادر الجيلي قدس سره وقد تقدم‏:‏ يا معاشر الأنبياء أوتيتم الألقاب وأوتينا ما لم تؤتوه إلى غير ذلك، فإن اعتقاد أفضلية ولي من الأولياء على نبي من الأنبياء كفر عظيم وضلال بعيد، ولو ساغ تفضيل ولي على نبي لفضل الصديق الأكبر رضي الله تعالى عنه على أحد من الأنبياء لأنه أرفع الأولياء قدراً كما ذهب إليه أهل السنة ونص عليه الشيخ قدس سره في كتاب القربة أيضاً مع أنه لم يفضل كذلك بل فضل على من عداهم كما نطق به «ما طلعت الشمس ولا غربت على أحد بعد النبيين أفضل من أبي بكر الصديق» فمتى لم يفضل الصديق وهو الذي وقر في صدره ما وقر ونال من الكمال ما لا يحصر فكيف يفضل غيره‏؟‏‏.‏

وفضل كثير من الشيعة علياً كرم الله تعالى وجهه وكذا أولاده الأئمة الطاهرين رضي الله تعالى عنهم أجمعين على كثير من الأنبياء والمرسلين من أولي العزم وغيرهم ولا مستند لهم في ذلك إلا أخبار كاذبة وأفكار غير صائبة‏.‏

وبالجملة متى رأينا الشخص مؤمناً متقياً حكمنا عليه بالولاية نظراً لظاهر الحال ووجب علينا معاملته بما هو أهله من التوقير والاحترام غير غالين فيه بتفضيله على رسول أو نبي أو نحو ذلك مما عليه العوام اليوم في معاملة من يعتقدونه ولياً التي هي أشبه شيء بمعاملة المشركين من يعتقدونه إلهاً نسأل الله تعالى العفو والعافية، ولا يشترط فيه صدور كرامة على يده كما يشترط في الرسول صدور معجزة، ويكفيه الاستقامة كرامة كما يدل عليه ما اشتهر عن أبي يزيد قدس سره، بل الولي الكامل لا التفات له إليها ولا يود صدورها على يده إلا إذا تضمنت مصلحة للمسلمين خاصة أو عامة‏.‏ وفي «الجواهر» و«الدر» للشعراني سمعت شيخنا يقول‏:‏ إذا زل الولي ولم يرجع لوقته عوقب بالحجاب، وهو أن يحبب إليه إظهار خرق العوائد المسماة في لسان العامة كرامات فيظهر بها ويقول‏:‏ لو كنت مؤاخذاً بهذه الذلة لقبض عني التصريف وغاب عنه أن ذلك استدراج بل ولو سلم من الزلة فالواجب خوفه من المكر والاستدراج، وقال بعضهم‏:‏ الكرامة حيض الرجال ومن اغتر بالكرامات بالكرى مات‏.‏ وأضر الكرامات للولي ما أوجب الشهرة فإن الشهرة آفة، وقد نقل عن الخواص أنها تنقص مرتبة الكمال، وأيد ذلك بالأثر المشهور خص بالبلاء من عرفه الناس‏.‏ نعم ذكر في أسرار القرآن أن الولاية لا تتم إلا بأربع مقامات‏.‏

الأول‏:‏ مقام المحبة‏.‏ والثاني‏:‏ مقام الشوق‏.‏ والثالث‏:‏ مقام العشق‏.‏ والرابع‏:‏ مقام المعرفة، ولا تكون المحبة إلا بكشف الجمال ولا يكون الشوق إلا باستنشاق نسيم الوصال ولا يكون العشق إلا بدنو الأنوار ولا تكون المعرفة إلا بالصحبة، وتتحقق الصحبة بكشف الألوهية مع ظهور أنوار الصفات، ولحصول ذلك آثار وعلامات مذكورة فيه فليراجعه من أرادها؛ والكلام في هذا المقام كثير وكتب القوم ملأى منه وما ذكرناه كفاية لغرضنا‏.‏ وأحسن ما يعتمد عليه في معرفة الولي اتباع الشريعة الغراء وسلوك المحجة البيضاء فمن خرج عنها قيد شبر بعد عن الولاية بمراحل فلا ينبغي أن يطلق عليه اسم الولي ولو أتى بألف ألف خارق، فالولي الشرعي اليوم أعز من الكبريت الأحمر ولا حول ولا قوة إلا بالله‏.‏

أما الخيام فإنها كخيامهم *** وأرى نساء الحي غير نسائها

‏{‏لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ الله‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 64‏]‏ أي لما سبق لهم في الأزل من حسن العناية، أولاً تبديل لحقائقه سبحانه الواردة عليهم وأسمائه تعالى المنكشفة لهم وأحكام تجلياته جل وعلا النازلة بهم، أو لا تبديل لفطرهم التي فطرهم عليها، ويقال لكل محدث كلمة لأنه أثر الكلمة ‏{‏وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ‏}‏ أي لا تتأثر به ‏{‏إِنَّ العزة للَّهِ جَمِيعاً‏}‏ لا يملك أحد سواه منها شيئاً فسيكفيكهم الله تعالى ويقهرهم و‏{‏هُوَ السميع‏}‏ لأقوالهم ‏{‏العليم‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 65‏]‏ بما ينبغي أن يفعل بهم‏.‏ ‏{‏أَلا إِنَّ للَّهِ مَن فِى السموات وَمَن فِى الارض‏}‏ أي إن كل من في ذلك تحت ملكه سبحانه وتصرفه وقهره لا يقدرون على شيء من غير إذنه فهو كالتأكيد لما أفادته الآية السابقة أو أن من فيها الملائكة والثقلين الذين هم أشرف الممكنات عبيد له سبحانه لا يصلح أحد منهم للربوبية فما لا يعقل أحقل بأن لا يصلح لذلك فهو كالدليل على قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَمَا يَتَّبِعُ الذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله شُرَكَاء إِن يَتَّبِعُونَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 66‏]‏ إلا ما يتوهمونه ويتخيلونه شريكاً ولا شركة له في الحقيقة ‏{‏هُوَ الذى جَعَلَ لَكُمُ اليل لِتَسْكُنُواْ فِيهِ‏}‏ إشارة إلى سكون العشاق والمشتاقين في الليل إذا مد أطنابه ونشر جلبابه وميلهم إلى مناجاة محبوبهم وانجذابهم إلى مشاهدة مطلوبهم وتلذذهم بما يرد عليهم من الواردات الإلهية واستغراقهم بأنواع التجليات الربانية، ومن هنا قال بعضهم‏:‏ لولا الليل لما أحببت البقاء في الدنيا، وهذه حالة عشاق الحضرة وهم العشاق الحقيقيون نفعنا الله تعالى بهم، وأنشد بعض المجازيين‏:‏

أقضي نهاري بالحديث وبالمنى *** ويجمعني بالليل والهم جامع

نهاري نهار الناس حتى إذا بدا *** لي الليل هزتني إليك المضاجع

‏{‏والنهار مُبْصِراً‏}‏ أي ألبسه سربال أنوار القدرة لتقضوا فيها حاجاتكم الضرورية، وقيل‏:‏ الإشارة بذلك إلى ليل الجسم ونهار الروح أي جعل لكم ليل الجسم لتسكنوا فيه ونهار الروح لتبصروا به حقائق الأشياء وما تهتدون به

‏{‏إِنَّ فِى ذلك لآيات لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 67‏]‏ كلام الله تعالى فيقيمون بواطنه وحدوده ويطلعون به على صفاته وأسمائه سبحانه ‏{‏وَقَالُواْ اتخذ الله وَلَدًا‏}‏ أي معلولاً يجانسه ‏{‏سبحانه‏}‏ أي أنزهه جل وعلا من ذلك ‏{‏هُوَ الغنى‏}‏ الذي وجوده بذاته وبه وجود كل شيء وذلك ينافي الغني وأكد غناه جل شأنه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَّهُ مَا فِي السموات‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 68‏]‏ الخ، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 71‏]‏ الخ أمر له صلى الله عليه وسلم أن يتلو عليهم نبأ نوح عليه السلام في صحة توكله على الله تعالى ونظره إلى قومه وشركائهم بعين الغنى وعدم المبالاة بهم وبمكايدهم ليعتبروا به حاله عليه الصلاة والسلام فإن الأنبياء عليهم السلام في ملة التوحيد والقيام بالله تعالى وعدم الالتفات إلى الخلق سواء، أو أمر له صلى الله عليه وسلم بأن يتلو نبأ نوح مع قومه ليتعظ قومه وينزجروا عما هم عليه مما يفضي إلى إهلاكهم ‏{‏وَقَالَ موسى يافرعون قَوْمٍ أَن كُنتُمْ ءامَنْتُمْ بالله‏}‏ أي إيماناً حقيقياً ‏{‏فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنْتُم مُّسْلِمِينَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 84‏]‏ أي منقادين، أي إن صح إيمانكم يقيناً فعليه توكلوا بشرط أن لا يكون لكم فعل ولا تروا لأنفسكم ولا لغيركم قوة ولا تأثيراً بل تكونوا منقادين كالميت بين يدي مغسله، فإن شرط صحة التوكل فناء بقايا الأفعال والقوى ‏{‏قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا فاستقيما‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 89‏]‏ أي على ما أنتما عليه من الدعوة شكراً لتلك الإجابة، وقيل‏:‏ أي استقيما على معرفتكما مقام السؤال وهو مقام الرضوان والبسط ليستجاب لكما بعد إذا دعوتما فإن من لم يعرف مقام السؤال قد يوقعه في غير مقامه فيسىء الأدب فلا يستجاب له، وقيل‏:‏ إن هذا عتاب لهما عليهما السلام أي قد أجيب دعوتكما لضعفكما عن تحمل وارد امتحاني فاستقيما بعد ذلك على تحمل بلائي والصبر فيه فإنه اللائق بشأنكما، وقد قيل‏:‏ المعرفة تقتضي الرضا بالقضاء والسكون في البلاء، وقيل‏:‏ أي استقيما في دعائكما والاستقامة في الدعاء على ما قال ذو النون المصري أن لا يغضب الداعي لتأخير الإجابة ولا يسأل سؤال خصوص نسأل الله تعالى أن يوفقنا لما يحب ويرضى‏.‏